محمد عبد الله بين : منشور الوزير الاول حول محاربة الفساد: من التعهد السياسي إلى منطق الدولة.


لم يكن منشور معالي الوزير الأول المختار ولد اجاي حول حصيلة جهود الحكومة في محاربة الفساد سنة 2025 مجرد بيان ظرفي أو تواصلي، بل جاء بوصفه حلقة أساسية في سلسلة تنفيذ برنامج الحكومة الذي نالت على أساسه ثقة البرلمان، وجسّد انتقال الخطاب الرسمي من مستوى التعهد السياسي إلى مستوى منطق الدولة وسيادة المؤسسات.
فحين يفتتح الوزير الأول خطابه بالتأكيد على أن المعركة ضد الفساد ستكون “صعبة وطويلة”، لكنه في الوقت ذاته يحسم بأنه “لا خيار عن مواصلتها والنصر الحاسم فيها”، فإن ذلك يعكس إدراكاً واقعياً لطبيعة الفساد بوصفه بنية معقدة تراكمت عبر عقود، وليس مجرد ممارسات معزولة يمكن القضاء عليها بإجراءات ظرفية أو شعارات سياسية.
*أولاً: محاربة الفساد كخيار استراتيجي للدولة*
يُفهم من مضامين المنشور أن الحكومة لم تعد تتعامل مع الفساد بوصفه ملفاً إدارياً ثانوياً، بل بات خياراً استراتيجياً للدولة له أبعاد سياسية واقتصادية واجتماعية. ذلك أن:
استرداد الأموال العامة المنهوبة،
ومحاربة الإثراء غير المشروع،
*وحماية كاشفي الفساد،*
وضمان النفاذ إلى المعلومات،
ليست مجرد أدوات تقنية، بل مرتكزات لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وتكريس مفهوم أن المال العام خط أحمر لا يُتسامح في التعدي عليه.
وهنا يبرز الانسجام الواضح بين منشور الوزير الأول وبين البرنامج الحكومي المعروض أمام البرلمان، والذي جعل من الحوكمة الرشيدة وربط المسؤولية بالمحاسبة أحد أعمدته الكبرى.
*ثانياً: إصلاح الصفقات العمومية* … ضربة موجعة لبؤر الفساد
يُعدّ ملف الصفقات العمومية من أخطر مداخل الفساد في أي دولة، وقد حمل منشور الوزير الأول أرقاماً دالة لا تحتمل التأويل:
40% صفقات تراضٍ سنة 2019،
24% سنة 2024،
15% فقط سنة 2025.
هذه الأرقام لا تمثل مجرد تطور إداري، بل تعكس تحولاً بنيوياً في فلسفة التدبير العمومي، يقوم على:
رقمنة المساطر،
إعادة تصنيف المؤسسات،
تقليص مساحات “التفاهمات المغلقة”،
وإخضاع المال العام لمنطق المنافسة والشفافية.
وهي خطوة تمسّ مراكز نفوذ تقليدية اعتادت توظيف الصفقات بوصفها رافعة للنفوذ السياسي والريع الاقتصادي، ما يفسر – ضمناً – شراسة المقاومة التي تواجهها هذه الإصلاحات.
*ثالثاً: القضاء في قلب المعركة ضد الإفلات من العقاب*
يحمل تحويل أكثر من 100 مشتبه إلى القضاء رسالة سياسية وقانونية بالغة الدلالة:
> أن زمن “الحصانة غير المعلنة” بدأ يتآكل.
فتمكين القضاء من أداء دوره الردعي لا يعني فقط تطبيق القانون، بل يعني أيضاً:
إعادة الاعتبار لهيبة الدولة،
وإنهاء منطق “الخطوط الحمراء الزائفة”،
وترسيخ قاعدة أن الجميع سواسية أمام القانون.
وهو ما ينسجم بوضوح مع تعهد الحكومة، أمام البرلمان، بإعادة الاعتبار لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة.
*رابعاً: إنشاء مؤسسة وطنية مستقلة لمحاربة الرشوة*
إن إنشاء مؤسسة وطنية مستقلة ومندمجة لمحاربة الرشوة يمثل نقلة نوعية في البنية المؤسسية لمكافحة الفساد، لأنه:
يكرّس الاستقلالية عن السلطة التنفيذية المباشرة،
ويوحّد الجهود المتفرقة في إطار مؤسسي مندمج،
ويضمن الاستمرارية بدل المعالجات الظرفية.
وهذا يضع محاربة الرشوة ضمن منطق السياسات العمومية الدائمة لا المبادرات الموسمية.
*خامساً: الوعي المجتمعي… الجبهة الصامتة في الحرب ضد الفساد*
ولعل أخطر ما في الفساد أنه لا يعيش فقط في المكاتب المغلقة، بل يتغذى أحياناً من:
التساهل المجتمعي،
ثقافة “التطبيع مع الخطأ”،
وتبرير الاعتداء على المال العام.
ومن هنا تأتي أهمية رهان الحكومة على:
نشر الوعي،
وبناء رأي عام مناهض للفساد،
وترسيخ قيم النزاهة في الأجيال الصاعدة.
ومن هنا فإن منشور الوزير الأول يعتبر تأكيداً عملياً على جدية الحكومة في جعل محاربة الفساد خياراً استراتيجياً للدولة، لا مجرد شعار سياسي. فقد أبرز هذا المنشور تقدماً ملموساً في تعزيز الإطار القانوني، و إصلاح منظومة الصفقات العمومية، و تفعيل الدور القضائي، و إنشاء هيئة وطنية مستقلة لمحاربة الرشوة، وترسيخ الوعي المجتمعي.
وفي المحصلة فإننا يمكن أن نجزم بأن منشور الوزير الأول كان في صميم تنفيذ البرنامج الحكومي الذي قُدّمه أمام البرلمان، وهو يؤكد أن معركة محاربة الفساد أصبحت مساراً مؤسسياً مستمراً بمنطق الدولة وسيادة القانون.

زر الذهاب إلى الأعلى