*المدرسة الجمهورية بين الإرادة السياسية ورهانات الإصلاح* *قراءة تربوية – سياسية في مشروع دولة*
لم تعد المدرسة الجمهورية مجرد توصيف تربوي تقني لمنظومة تعليمية موحدة، بل تحوّلت في السياق الوطني إلى مشروع دولة، وإلى خيار استراتيجي يختزل معركة بناء الإنسان، وصناعة الوعي، وإعادة تشكيل العلاقة بين المواطن والدولة على أسس العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص. ومن هذا المنطلق، فإن تناول المدرسة الجمهورية لا يمكن أن يتم بمعزل عن السياسة العمومية، ولا عن الإرادة السياسية، ولا عن شبكة العراقيل والرهانات التي تحيط بها.
أولاً: المدرسة الجمهورية خيار يفرض نفسه
إن التحولات الاجتماعية، وتوسع الفوارق، وتعدد أنماط التعليم، وتراجع الثقة في المدرسة العمومية، كلها عوامل جعلت من المدرسة الجمهورية خياراً حتمياً لا ترفاً إصلاحياً. فهي الإطار الوحيد القادر على:
توحيد المسارات التربوية.
تحصين الهوية الوطنية الجامعة.
كسر منطق الامتياز الطبقي في الولوج إلى المعرفة.
بناء مواطن لا تُحدِّده أصوله الاجتماعية بل كفاءته.
فالمدرسة الجمهورية ليست مجرد مدرسة عمومية، بل هي مشروع مواطنة في جوهره، ومجال لإعادة توزيع الرمزية الاجتماعية على أساس الاستحقاق.
ثانياً: المسارات والخيارات الاستراتيجية
إن إنجاح هذا الخيار يقتضي وضوحاً في المسارات الاستراتيجية، وفي مقدمتها:
إصلاح المناهج بما يوازن بين المعارف والكفاءات والقيم.
إعادة الاعتبار للتكوين الأساس والمستمر.
ربط التعليم بحاجات التنمية لا بمنطق الشهادات.
توحيد معايير الجودة بين التعليم العمومي والخصوصي.
ترسيخ الحوكمة الرشيدة في التسيير التربوي.
غير أن الإشكال الحقيقي لا يكمن في غياب الرؤى، بقدر ما يكمن في ضعف الالتزام الصارم بتنفيذها، وفي التردد بين منطق الإصلاح ومنطق تدبير التوازنات الاجتماعية والسياسية.
ثالثاً: الإرادة السياسية بين الإعلان والتنفيذ
لا يمكن لأي إصلاح تربوي أن ينجح دون إرادة سياسية واضحة وقوية. فالتعليم مجال شديد الحساسية، تتقاطع فيه المصالح الاقتصادية، والرهانات الاجتماعية، والحسابات السياسية. والإرادة السياسية لا تُقاس بخطابات التوجيه ولا بإعلان المشاريع، بل تُقاس بـ:
مدى الاستعداد لمواجهة شبكات المصالح داخل المنظومة.
ربط المسؤولية بالمحاسبة.
حماية القرار التربوي من التوظيف السياسي الظرفي.
ضمان الاستمرارية في الإصلاح بعيداً عن منطق القطيعة بين المراحل.
وحين تضعف هذه الإرادة، يتحول الإصلاح إلى شعارات، وتغرق المدرسة في دوامة الانتظار.
رابعاً: العراقيل والصعوبات البنيوية
تواجه المدرسة الجمهورية عراقيل مركّبة، من أبرزها:
مقاومة التغيير من داخل بعض البُنى الإدارية.
تضارب المصالح بين الفاعلين.
هشاشة البنية التحتية في بعض الجهات.
ضعف التحفيز المادي والمعنوي للمعلمين.
انتشار بعض مظاهر الفساد وسوء التسيير.
وهذه العراقيل ليست تقنية فقط، بل هي سياسية ومجتمعية في جوهرها، لأنها تمس بنمط تدبير الدولة للقطاع وبعلاقتها بالموارد العمومية.
خامساً: الرهانات المصيرية
إن الرهان على المدرسة الجمهورية هو في العمق رهان على:
إعادة إنتاج النخب على أساس الكفاءة لا الوراثة الاجتماعية.
تحصين المجتمع من التطرف والانغلاق.
تقليص الفجوة بين المركز والهامش.
بناء اقتصاد المعرفة.
تعزيز الاستقرار السياسي على أساس العدالة الاجتماعية.
فالتعليم هنا ليس خدمة عمومية فقط، بل هو أداة لإعادة هندسة المجتمع.
سادساً: أين دور النخبة؟
يظل سؤال النخبة من أكثر الأسئلة إلحاحاً. فالنخب الفكرية، والتربوية، والإدارية، مطالبة اليوم بما يلي:
كسر منطق الصمت والمجاملة.
إنتاج خطاب نقدي مسؤول.
المساهمة في بلورة البدائل.
تأطير الرأي العام تربوياً.
حماية المدرسة من التسييس الضيق ومن الشعبوية.
فحين تغيب النخبة، يملأ الفراغ أصحاب المصالح الضيقة وخطابات التبسيط المخل.
سابعاً: المعلمون والإدارة المدرسية في قلب المعركة
يبقى المعلم حجر الزاوية في مشروع المدرسة الجمهورية. فمهما بلغت جودة المناهج، ومهما تطورت البنية، فإن المعلم يظل صمام الأمان. أما الإدارة المدرسية فهي الواجهة اليومية للدولة داخل المجتمع. وإذا لم يُعاد الاعتبار لهذين الطرفين عبر:
التحفيز.
التكوين.
الحماية المهنية.
والنزاهة في التعيين،
فإن كل مشروع إصلاح سيظل هشاً وقابلاً للانكسار.
إن المدرسة الجمهورية ليست مجرد خيار تربوي، بل هي معركة سياسية-اجتماعية-قيمية تتطلب:
إرادة سياسية صلبة.
نخبة يقظة.
معلمًا محصَّناً.
إدارة نزيهة.
ومجتمعاً مدنياً شريكاً لا متفرجاً.
وإما أن نربح هذه المعركة لصالح الدولة والمجتمع، أو نخسرها لصالح الفوارق، والهشاشة، وغياب العدالة.