خربشة في فوهة عرين / محمد الهادي ولد الزين
الزمان والمكان يشكلان معاً شبكة من الظروف على أخلافهما ، ففي حين أننا نتحرك في المكان حيث نشاء بكل حرية، لا نستطيع أن نعود بالزمن للحظة واحدة فقط … وإذا كنا لا نستطيع أن نعود بلحظة إلى الخلف فإننا نتذكرها دائمًا على أنها من الماضي، فيتحتم على عقولنا أن تُرتب الأحداث في ماضٍ وحاضرٍ ومستقبل لأن هذه هي طريقتنا في اكتساب المعلومات ولولا ها لما استطعنا فهم جملة واحدة ولا ربط سبب بنتيجة.
واقتضت حكمة الله تعالى أن ترتبط عباداته بأزمانٍ معينة تُؤدَّى فيها، وأمكنة محددة تمارس عليها، وتتفاضل هذه العبادات والأعمال حسب تتفاوت الأزمنة والأمكنة في الفضل. فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( ما العَمَلُ في أيَّامٍ أفْضَلَ منها في هذِه العشر؟ قالوا: ولَا الجِهَادُ؟ قَالَ: ولَا الجِهَادُ، إلَّا رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بنَفْسِهِ ومَالِهِ، فَلَمْ يَرْجِعْ بشيءٍ)). “رواه البخاريّ”. والكلام – طبعاً- عن العشر الأوائل من ذي الحجة التي انتهت يوم أمس الجمعة، انتهت في يم جمع بين فضل أيام الأسبوع وفض أيام السنة ، انتهت في يوم مقداره عام مما تعدون… يوم نتاجه حصاد أزمنة ، يوم به انتهت عشر، و به انتهى شهر، و به انتهت سنة ، و به ولى عهد وتتحقق وعد.
حدث كل ذالك في يوم واحد ! يوم عيد الأضحى المبارك يوم الجمعة خاتم أيام السنة الأولى من حكم محمد، اليوم الموافق ل 31 يوليه سنة 2020. اليوم الذي تميزت به هذه السنة المتميزة أصلا، سنة من رقمين متفقين في المخرج مختلفين في الصفة – على قاعدة صاحب التحفة- سنة لا كالسنين لا فارض ولا بكر عوان بين الحقبتين. فعن ابن سيرين من غير إسناد شفهي أو تدوين قال: إن السنة إذا كانت من رقمين كل منهما جمع عشريتين فهي سنة: فَاتِقَةٌ رَاتِقَةٌ. قالوا وما ذاك ؟ قال : تفتق بين عهدين متتالين ذي نهجين مختلفين ، و ترتق عشاً بعشرٍ. قالوا زدنا يا شيخ المفسرين. قال : تنتهي فيها عشر سنين بحساب أهل الفلك والمنجمين، وتبدأ بها عشر سنوات بعد أهل الجبر والرياضيات. قالوا: تلك عشر انقضت وعشر مستهلات، فما العشرُ والعشرُ المتبقيات ؟ قال: هن عشر أوائل وعشر أواخر من أيام الزمن الثمين في معلوم ومعدود أهل الرسوخ في العلم والدين. قالوا: صدقت. فحدثنا عن عشر سنوات لا هن بقرات ولا سنبلات؟ وعن ما فيهن من سمين وغث، أم كلهن فساد وخراب وعبث؟ وهل عملهن موقوف وأجرهن مصروف، أم هن معروف لا يقاس بموصوف…؟
فهممت بالانصراف لأني أعرف فضل الأضحية بالخراف… فقالوا : لا تخف، لسنا خصوم ولا نضمر شراً بعلية القوم … وكما ترى ليس من بيننا شرير! وإنما نسعى لإعداد تقرير قد لا يترتب عله الكثير.
فأحسست ببعض الإحراج لما يترتب على تقرير القوم من علاج، ولأني كنت قد وقعت على ميثاق شرف ينصّ على أنه: ” عفا الله عما سلف”.
ولأني لا أريد المقارنة بين العشريات الزمنية أياماً أواخر كانت أم أوائل، ولا سنين سوالف أم لواحق، كما لا أريد تقييم أعمال الناس في عشرياتهم، فحسب الناس حسيبهم على ما عملوا من خير أو شر. لكني سأمارس حقي في السعي ــ كغيري ممن شهدوا المرحلة ــ إلى طرح بعض الأسئلة الغير محرجة في السياسة والدين! آه ! عفواً! أعني في العرف والقانون… ثم إني لا أرغب في أن يرتكب غيري أخطاء – كما ارتكبت أنا – تكلفهم استجداء الصفح أو التبرير.
نصيحتي ؛ أن ينتبهوا عند الاستفهام ويركزوا في التساؤل، أو لا يتساءلوا ولا يستفهموا أصلاً، وتلك قاعدة السلامة “قل خيرً أو اصمت”.
ورغم أني أقر على نفسي طائعًا غير مكره ولا مجبر باني مقيد بحكم هذه القاعدة وروح ذالك الميثاق، إلا أني سأمارس حقي في التساؤل والاستفهام، فلم يعد من ذالك مخوف أخشى الوقوع فيه، فالعقدة بالنسبة لي تكمن في : أي صيغة تناسب للتعبير عن استشكالاتي؟ وأي رسم أدق في تحديد أشكال استفهاماتي؟ وأي منطلقٍ هو أولى للبدء؟ وأي مرسى هو غاية الانتهاء؟ فكم تعودت نشوة البدايات و شجو النهايات… وكم خبرت كيف تَمُدُّ ظاهرَ الرحمة لتخطفَ بباطن العذاب يَدُ الغدر آمال و أحلام شعب مستغفل من دون سابق إنذار مع سوابق إصرار وترصد، فلا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على بال بشر…
وكنت قد سمعت أنّ النهايات السعيدة لا تكون إلّا في الأفلام والقصص الخيالية… وكانوا قد نصحوني بأن لا أغتر بمظاهر الاستقبال…وحكوا لي أمثلة من كتب كثيرة … كتب ألفها السلف وشرحها وحققها الخلف … كتب ذات أحجام وأغلفة متشابهة وغير متشابهة … كتب ذات فهارس مكتنفة وحواشي متزلفة… كانوا يحكون باسترسال فلا أفهم ولا أطرح أي سؤال…كانوا يقولون ويتعهدون بالأفعال وكنت أسمع ولا أرى أي مثال… كانوا قد عودوني عدم الثقة في كل العهود والوعود … وطلبوا مني أن أهتم بالأماني والأحلام في كل البدايات… وتعودت وحدي أن أخسر كل شيء في كل النهايات… بعد أن تخور قواي وتدمى قبضتاي من فرط التمسُّك بخيوط وهمهم المتلاشي غير بعيد…
كانوا بالسبة لي كل شيء رغم أني لا أعني لهم أي شيء … كانوا كلما أنعم عليهم ربهم بما جعله محرما عليَّ من فائض نعمه ادخروه، وأوكلوا إليَّ مهمة حمده وشكره، بل حرضوني على المبالغة في الثناء عليه… كانوا لا يتناهون عن تمزيق أي قاسم نشتركوه … وكنت لا أراجعهم في أمرٍ قطعوه، ولا أبكي على وطن خربوه ، ولا آسى على ماض شوهوه ومستقبل ضيعوه، ولا على مال نهبوه وحق سلبوه …
هكذا كنت أنا منذ نعومة أظافري!… أرقص على إيقاع الوهم والغش والتزوير… أطرب لإغرائي بسماع ذكري عند البداية ونكراني وخيبة أملى في النهاية … أعلق آمالي على حلم ما بين الأماني والضياع… وأعيش على التوكل عماري ما بين الستين والسبعين…
أما ولم يعد في العمر متّسع للخذلان…ولم يبق من خيار لديَّ غير الهوان… ولم تبق في عقلي أية ذكرى غير مؤلمة وجارحة … وخَلَتْ عواطفي إلاَّ من هواجس ومخاوف تتجسد في مخيلتي على صورة ذالك الشبح الفظيع الذي كنت أنام على حكاياته وجدتي تربت على كتفي كالطفل، في تلك الليالي الشتوية الطويلة الباردة ذات الأحلام المفزعة المخيفة… ورغم أسفي! إذ لم أعد أملك خيار الحيرة … فلا بُدَّ إذاً مما ليس منه بُدٌّ، فإما أصالح مأجوراً أو أناطح معذوراً…
حين تتسلل من تحت الغطاء أشعة شمس دافئة… وحين أحس بأني احتميت من مخاوفي وسط عرين مكين، بُسطت بوصيده ذراعي أسدٍ جسور…تتعالى عبر الستائر أصوات مبحوحة !… وصياح متقطع ونباح!… ورذاذ من ساقط قول غير مباح!…ومن خلف الأبواب! خافت من الهمس الهجين … أسمعه، فيمنع غبش الظروف من تمايز الصفوف … هل يبزغ الفجر…؟ هل ينبلج الصبح…؟ هل هي فوضى وضجيجُ المسير…؟ أم مجرد خربشة في فوهة عرين…؟