الفُتُــوّة.. ومعاييرُها المتَحوِّلة بين المشــارقة والشناقطـــة /د. محمد الأمين السملالي

تحتفظ الذاكرة العربية والإسلامية لمفهوم الفتوة، بأسمى معاني الصفات الإيجابية، فهي في الإطلاق الغالب تحيل إلى كمال الأوصاف الأخلاقية في الرجل، فتنطوي تحتها كل النعوت المرغوبة، من شجاعة وكرم وبذل وتضحية.. إلخ. لكن تلك النعوت والصفات قد مرت ببعض التحولات التاريخية التي أخضعتها لتقلّب الأحوال واختلاف السياقات المكانية والزمانية، مما يجعلها جديرة بالرصد والتوقف عند مراحلها المختلفة ومعاييرها المتحولة.
ولئن كان من المألوف في المقارنات الأدبية وغيرها، أن تكون بين المشارقة والمغاربة؛ فإننا هنا قد آثرنا المقابلة بين المشارقة والشناقطة، لأننا نعتقد -كما سيظهر من خلال البحث- أن للشناقطة بعض الخصوصية المميزة في موضوع الفتوة، في مقابل مفهومها وتحولاتها عند المشارقة.

معالجة لغوية
تعيد المعاجم اللغوية جذر (ف ت و/ي) إلى معنى الطَّراوة والشَّباب، قال الجوهري في الصحاح: “الفَتى: الشابُّ، والفتاةُ: الشابَّة”، وقال ابن فارس في (المقاييس): “الفاء والتاء والحرف المعتل: أصلانِ: أحدهما يدلُّ على طَرَاوة وجِدّة، والآخر على تبيين حكم”. كما تتطرق إليه أيضاً كتب المقصور والممدود، راصدةً الفرق بين مقصوره (الفتى) أي الشاب الطّريّ، وبين ممدوده (الفتاء) وهو المصدر منه، أي: حداثة السن؛ يقول ابن مالك في همزيته:
وهل لِفتىً من قبلُ دام فتاؤُه ** فيلهيك جيرانُ النّقا ونقاءُ؟!
ويستشهدون بقول يزيد بن ضَبّة الثقفيّ، الذي جمع المقصور والممدود في بيت واحد فقال:
‌إذا ‌عاشَ ‌الفَتَى مائَتْينِ عامّا ** فقد ذَهَب المسرّةُ والفتاءُ
وتذكر المعاجم معانيَ أخرى للفتى، منها: الخادم التابع، والسخي الكريم، والشجاع، ومن المعاني الأخيرة يأتي مصدر “الفتوة”؛ قال الجوهري: “والفتى: السخي الكريمُ، يقال: هو فَتىً بَيِّنُ الفتوّةِ”. وأغلب الظن أن هذه المعاني متأخرةٌ عن الإطلاق الأول، أطلقت من باب الاستعارة، لأن الفتى الشاب يكون مكتمل الصفات الحسية من قوة جسدية ونفسية، فنقل معنى الكمال فيه من الحسّيّ إلى المعنوي، وكذا الخادم المملوك في الغالب يكون شابا في السن، فاستعير له ذلك الإطلاق في جميع أحواله.
على أننا في هذا المقال، إنما يهمنا في الفتوة معناها الثاني الذي تحوّل بقوة الاستعمال من مجاز إلى حقيقة عرفية تُزاحِم الأصل أو تغلِبُه، فيمكن أن نقول إن إطلاق الفتى بمعنى (كامل الأوصاف) إطلاق موغل في القدم والأصالة، وما زلنا جميعا نردد بيت الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد (نحو: 55ق.هـ):
إذا القوم قالوا من فتىً؟ خلتُ أنني ** عنيت فلم أكسل ولم أتبلّد
فهو هنا لا يعنى فتوة السن، وإنما يريد: “إذا القوم قالوا من فتى يكفي مُهِمًّا أو يدفع شرًّا؟ خلت أنني المراد بقولهم فلم أكسل في كفاية المهم ودفع الشر ولم أتبلد فيهما”.
وقد تعاور الشعراء على اقتباس هذه العبارة، فقال متمم بن نويرة:
‌إذا ‌القوم ‌قالوا: ‌مَن ‌فتًى لعظيمةٍ؟ ** فما كلُّهم يُدْعَى، ولكنّه الفَتى
وقال أبو الطمحان القيني:
لو كان في الألْفِ مِنّا واحدٌ فدَعَوْا: ** مَنْ فارِسٌ؟ خَالَهم إيَّاهُ يَعْنونا
وقد بلغ هذا المعنى من التجذّر في الاستعمال، إلى درجة أنّ بعض اللغويين توهّم أنه هو المعنى الأصلي للفتوة، وسجّله بعضهم في كتب (لحْن العوامّ)، كما فعل ابن أيبك الصفدي في (تصحيح التصحيف وتحرير التحريف)، حيث يقول: “قال القُتَبيّ: ليس الفَتى بمعنى الشابّ والحَدَث، وإنما هو بمعنى الكامل الجَزْل من الرِّجال”. وقبله الجواليقي في (التكملة والذيل على درة الغواص)، ويبدو أن مصدرهم في هذا النقل هو الإمام الأزهري في (تهذيب اللغة)، حيث نقلوا عنه بالحرف إحالته على القتيبي، وهو أبو محمد عبد الله بن مسلم بن قتيبة الدِّينَوَريّ، الذي رجعنا إلى كتابه (المسائل والأجوبة) لنكتشف أن النص المنقول عنه قد وقع فيه سقط يسير، أدى إلى هذا الوهم الكبير، الذي تتابع عليه عدد من المؤلفين، من جراء اعتمادهم على مصدر وسيط، ففي كتاب ابن قتيبة المذكور جاء النص كالتالي:
“قولُ زُهَيرِ بنِ جَنابٍ:
مِنْ كُلِّ ما نالَ الفَتَى ** قَدْ نِلتُهُ إِلّا التَّحِيَّهْ
يُريد: مِن كلِّ ما نالَهُ الكاملُ في الشَّرَفِ من الرجالِ قد نِلتُهُ، إلّا أَنِّي لم أَصِرْ مَلِكًا أُحَيَّى بتحيّة الملوك، وليس الفتى في هذا المَوْضِعِ بمعنى الشَّابّ والحَدَثِ، وإِنَّما هو بمعنى الكاملِ الجَزْلِ من الرِّجالِ، يَدُلُّكَ على ذلك قولُ الشاعرِ:
إِنَّ الفتى حَمَّالُ كُلِّ مُلِمَّةٍ ** لَيسَ الفَتَى بِمُنَعَّمِ الشُّبّانِ
وكذلك قَوْلُ ابنِ هَرْمَةَ:
قَدْ يُدْرِكُ الشَّرَفَ الفَتَى ورِداؤُهُ ** خَلَقٌ وَجَيْبُ قميصِهِ مَرْقوعُ
وقَدْ يقولونَ للرجلِ الكاملِ: هو فَتَى الفِتْيان، قالتْ ليلى:
كأَنَّ فتى الفتيانِ توبةَ لم يُنِخْ ** قَلائِصَ يَفْحَصْنَ الحَصَى بالكَراكِرِ”.
.
.
.
الفتوة عند الشناقطة
عرف الشناقطة الفتوّة من دواوين الشعر العربي، التي كانوا يلهجون بها منذ الصبا، وكانوا يتمثلون ما فيها من الفضائل والمكارم دون ما سواه، ولذلك فقد بقت صورة الفتوة عندهم نقية صافية، تتمثل فيها كل السجايا الحميدة، من النجدة والشجاعة والكرم، إضافة إلى وفور الحظ من العلم والأدب، وقد تجلى اهتمامهم بالفتوة في مظاهر عديدة منها:
من الوصف إلى الاتصاف:
كثيرا ما كان الشناقطة يصفون الرجل بأنه (فتى) أو (من الفتيان)؛ دلالة على ما يحوزه من الصفات التي يندر أن تجتمع في الفرد الواحد، ومن الأمثلة على ذلك، قول صاحب (الوسيط) في ترجمة أحمد بن أمين بن الفراء التندغي: “وكان رحمه الله جوادا ظريفا مزّاحا كثير البشاشة، يجيد ركوب الخيل والسباحة وبالجملة، فإنه من ‌فتيان وقته”. قال ذلك بعدما استعرض ترجمته، وذكر من صفاته أيضاً إلمامه بالعديد من اللغات.
ولا ينسى العلامة ولد التلاميد أن يفاخر بفتوته في معلقته الباذخة، حين يقول في مطلعها:
ألا طرقت ميٌّ فتىً مطلعَ النّجمِ ** غريباً عن الأوطان في أُمَم العُجْمِ
فتىً مِن مُصاص العُرْب قد جاء شاكياً ** تَعَدِّيَ أهل الجَورِ والظلم والهضْــم

وقد اتخذ الشناقطة من الفتوة ألقابا لأبنائهم من باب التفاؤل فسموا: (الفتى) بالتعريف، و(فتى) بالتنكير، وهو نمط من التسمية لا يعرف في البلدان العربية الأخرى. وقد صار بعض أولئك الأعلام أعلاماُ في الفتوة بحق، فطابقت فيهم الأسماء المسميات، نذكر من أبرزهم: فتى بن سيدينا العلوي، وفتى بن سيد امين الباركي، إضافة إلى أسرة العلم والأدب آل فتىً الشقرويين.

فتوة العلم والأدب:
قد تتفاوت العناصر المطلوبة لتحقيق الفتوة عند الشناقطة من منطقة إلى أخرى، لكن أبرزها وأهمها تلك العناصر المطلوبة في المجتمعات العلمية، ويأتي في مقدمتها تحصيل العلم والأدب، وخصوصا ما يتعلق بعلوم العربية، يجعل الشاعر محمدو ولد حنبل معرفة الإعراب واللغة هي العنصر الأول في الفتوة، مستبعداً كل ما سواه:
حلْىُ الفتى إعرابه لا ماله ** ولا نجارُه ولا جماله
كلُّ فتىً شبَّ بلا إعرابِ ** فهوَّ عندي مثل الغراب
وإن رأيته لخودٍ عاشقا ** فقل لها اتّقى الغراب الناعقا
لا انتفعت بالأكل والشراب ** من آثرتْ مالا على أعراب

أما سيدنا بن الشيخ سيديا، فيفصّل في المعارف التي يتبارى فيها فتيان عصره، من الأوساط العلمية، وهو يصف بعض مجالسهم وأسمارهم:
وكمْ سامَرْتُ سُمَّاراً فُتُوًّا ** إلى المَجْدِ انْتَموْا مِنْ مَحْتِدَيْن
حَوَوْا أدَباً على حَسَبٍ فداسُوا ** أديمَ الفَرْقدينِ بأخْمُصَيْن
أُذاكِرُ جَمْعَهُمْ ويُذَاكِرُوني ** بكلِّ تخالُفٍ في مَذْهَبين
كخُلْفِ اللّيْثِ والنُّعمانِ طَوْراً ** وخُلْفِ الأشْعرِيّ مَعَ الجُوَيني
وأوْرادِ الجُنْيدِ وفِرْقتيْهِ ** إذا وَرَدوا شَرَابَ المشْرَبين
وأقوالِ الخليل وسيبويهِ ** وأهلي كُوفةٍ والأخْفشين
نوضّحُ حَيثُ تلْتبسُ المعاني ** دَقيقَ الفرْقِ بين المعنيين
وأطواراً نميلُ لذِكرِ دارا ** وكسرى الفارسيّ وذي رُعين
ونَحوَ الستةِ الشُّعراءِ ننحُو ** ونحوَ مُهَلْهلٍ ومُرَقّشيْن
وشِعرَ الأعمييْن إذ أردنا ** وإن شئنا فشِعر الأعشيين
ونذهبُ تارةً لأبي نواسٍ ** ونذهبُ تارةً لابن الحسين
ويذهب فتى ابن سيد آمين الباركي إلى جانب آخر من عناصر الفتوة، يتعلق بتهذيب الأخلاق والالتزام الديني، فيقول -متوخياً ما أمكن من المحسّنات اللفظية-:
ما كُلُّ مَن يا فتىً يُدْعى فَتىً بِفتىً ** إن الفُتُوّة ليست بالأكاذيب
ولا بتَطييب نفسٍ غيرِ طيّبةٍ ** ولا بتهذيبها من غير تهذيبِ
ولا بتحسينِ أثوابٍ وجِدَّتِها ** كَلّا ولَيس بأكلِ الشّاء كالذّيبِ
إنّ الفُتُوّةَ في دُنياً وآخرةٍ ** سلامةُ المَرء من عارٍ وتعذيبِ
ولئن كان الشناقطة لم يعرفوا تشكيلات “الفتيان” بمعانيها التي ذكرناها سابقاً، فقد عرفوا نمطاً يناسب خصوصيتهم البدوية، وهي التشكيلات المعروفة باسم “الأعصار”؛ بمعنى الرفاق والأصحاب، حيث يشكل كل عصرٍ فريقاً ينافس الأعصار الأخرى في منافسات متنوعة، ومنها ألعاب الكرة التي كانت لها شعبيتها الكبيرة، ويمتد التنافس فيها أحياناً ليتحول إلى سجالات أدبية ماتعة.

مقارنة ختامية
بعد هذه الجولة الممتدة زمانيّاً ومكانيّاً في مفهوم الفتوّة ومغامرات الفتيان، رأينا ما كان لهذا المفهوم من قيمة أدبية وأخلاقية، ثم ما لحقه من توظيف مشوّه في بعض الأحيان، لكن ما يستحق التوقف هنا هو ذلك التميّز الشنقيطي في التعامل مع الفتوة؛ حيث وظف الشناقطة جانبها الإيجابي فقط، وسَمَوْا به إلى أقصى الغايات. وربما يرجع ذلك إلى أن الثقافة الأدبية والأخلاقية عند القوم كانت تعتمد في الأساس على الشعر العربي في عصوره الزاهية، فلم يتأثروا بالأطوار التي انحرفت فيها الفتوة في معناها أو مبناها.
أما المفارقة في الجانب المشرقي، فتتمثل في التحول الدلالي، الذي أصاب هذه القيمة الأخلاقية في الصميم، فآلت بها الحال إلى أن استقرت على معنى اللصوصية والعنف، وانمحت منها كل معاني البسالة والنخوة والسخاء والكرم.

زر الذهاب إلى الأعلى