محمد عبد الله ولد بيّن يكتب /منظومة القيم في المشهد الموريتاني: بين حكمة مانديلا وواقع السياسة

حين نتأمل كلمات نلسون مانديلا عن هشاشة القيم وعن نسيان الناس السريع، ندرك أنّها ليست مجرد حكم عابرة، بل مرايا صافية تعكس واقعًا نعيشه في موريتانيا كل يوم.
ففي هذه الأرض التي تتجاور فيها الحكمة الشعبية مع البراغماتية السياسية، تتبدّى أزمة الأخلاق بأشكالٍ واضحة: تطبيل سياسي، نفاقٌ اجتماعي، واستعدادٌ دائم لنقض العهود بمجرد تغيّر المصالح.
يقول مانديلا: «ليس كل الأصدقاء أصدقاء»، وكأنّه يصف حال جزء واسع من السياسيين عندنا. فكم من سياسي ينام على ولاء ويستيقظ على ولاء مضاد! وكم من قائد بنى حوله رجالًا، وما إن تلوح أول عاصفة حتى يتوارى أولئك الرجال إلى حيث تعصف المصالح. لقد صار بعض السياسيين يعرفون “الأشياء” ودهاليز السلطة، لكنهم لا يعرفون “القيم”: لا يعرفون معنى الوفاء، ولا ثمن الشرف، ولا قيمة العطاء الحقيقي.
ومن أبرز ملامح الحياة السياسية الموريتانية أنّ التطبيل صار مهنة، والنفاق صار وسيلةً متاحة للصعود، و”المجاملة” غطاءً لغياب الموقف. السياسي الذي يرفع القائد اليوم، قد يكون نفسه أول من يطعن فيه غدًا إذا تغيّر اتجاه الريح. وهنا نفهم قول مانديلا: «عندما تعرف كم ينساك الناس بسرعة عندما تموت فلن تسعى للعيش كي يبكي أحد بعد موته».
فالسياسي الذي يسعى للبقاء في ذاكرة الجماهير عبر الشعارات الفارغة، لا يدرك أنّ الذاكرة لا تحفظ إلا من عمل، ولا تخلّد إلا من صدق.
وفي المشهد الموريتاني، تتجلّى أزمة القيم في ممارسات عديدة:
سياسيون يبدّلون مواقفهم كما يُبدّل الناس ثيابهم.
انتقالات فجائية من معسكر إلى آخر دون مبرر أخلاقي.
ولاءات تُباع وتُشترى، لا تُكتسب ولا تُحمى.
رجال يدّعون القرب والوفاء لقادتهم، بينما يخفون تحت السطح حسابات شخصية ضيقة.
ويكاد الموريتاني البسيط يلخّص المشهد حين يقول: «السياسة ما فيها لا صاحب لا قريب… فيها غير اللي ينفع».
هذا القول الشعبي يكشف أن الناس باتوا يشاهدون انهيار منظومة القيم من الداخل، حيث تُرفع الشعارات الكبيرة، لكن السلوكيات تظل صغيرة، ضيقة، محكومة بالمصلحة لا بالمبدأ.
ومع ذلك، لا يزال في المناخ السياسي رجالٌ صدقوا. رجالٌ يعرفون معنى أن يكونوا أوفياء لقادتهم، وأن يقفوا معهم في الشدة قبل الرخاء.
ولكن هؤلاء – في الغالب – هم الأقل صخبًا والأكثر حضورًا وقت الشدائد.
إنّ بناء منظومة قيم سياسية موريتانية متماسكة يحتاج إلى:
إعادة الاعتبار لمفهوم الوفاء السياسي.
تعزيز ثقافة المسؤولية لا ثقافة التطبيل.
تشجيع القيادات التي تصنع الرجال، لا تلك التي تصنع المصفّقين.
وغرس أخلاق أن الولاء للمشروع، لا للكراسي ولا للرياح المتغيّرة.
وبذلك تصبح حكمة مانديلا ليست مجرد قول، بل درسًا موريتانيًا في السياسة:
ليس كل من يقترب منك صديقًا، وليس كل من يصفّق لك وفيًا… والقيمة ليست في كثرة المرافقين، بل في صدق القليل منهم.