*محمد عبد الله بين* يكتب في “`مقال تحليلي“` : *العبارات الشعبية ودورها في ترسيخ ثقافة الفساد في الممارسة الموريتانية**
تُعدّ اللغة الشعبية مرآةً صادقةً للمنظومة القيمية التي تتحكم في سلوك الأفراد والجماعات. وعندما تنتشر ألفاظ بعينها وتعكس أفعالًا غير قانونية أو غير أخلاقية، وتتحول إلى تعبيرات مألوفة وعادية، فإنها تكشف — ولو دون قصد — عن حجم تطبيع المجتمع مع أنماط من الفساد المدني أو الاقتصادي أو الأخلاقي. وفي السياق الموريتاني، تبرز مجموعة من المفردات الشعبية مثل الحوص والكزرة واتفكريش باعتبارها مؤشرات لغوية تترجم واقعًا اجتماعيًا يعيش نوعًا من المساكنة بين القيم المعلنة والقيم الممارسة.
*أولًا: “الحوص” — حين يتحوّل النشل إلى سلوك لغوي عادي*
يشير لفظ الحوص في الثقافة المحلية إلى “النشل”، أي أخذ ما ليس لصاحبه بطريقة غير مشروعة وغالبًا خفية. الخطر الحقيقي لا يكمن في الكلمة نفسها، بل في الطبيعية التي أصبحت تُنطق بها، كأنّها جزء من التداول اليومي الذي لا يثير استهجانًا مرئياً.
إن توظيف هذا المصطلح الشعبي في وصف سلوكيات إدارية أو مهنية يدل على:
1. تطبيع مجتمعي مع السرقة الصغيرة أو ما يُسمّى “التلاعب البسيط”.
2. انتقال الكلمة من الشارع إلى المؤسسات، فيُوصف بها الموظف الذي يقتطع من المال العام أو يستفيد من موقعه بشكل خفي.
ويوصف السائق يحوص الأسبقية من صاحبها بسرعة ولو ادى ذلك إلى حادث، يوصف بالماهر والشاطر.
3. تشكّل بيئة لغوية تُخفّف وطأة الفعل، مما يجعل الجريمة الأخلاقية أقل وقعًا، وبالتالي أقل قابلية للمحاسبة.
بهذا يصبح “الحوص” ليس مجرد لفظ، بل إطارًا رمزيًا يشرعن التعدي الخفيف ويجعله مقبولًا ضمنيًا.
*ثانيًا: “الكزرة” —* احتلال غير شرعي يتحوّل إلى واقع اجتماعي
تُطلق كلمة الكزرة على الاستيلاء غير القانوني على الأراضي أو القطع العقارية. وقد تحوّلت هذه الممارسة — بتكرارها التاريخي — من حالة شاذة إلى ظاهرة اجتماعية باتت تحمل اسمًا خاصًا بها، مما يدل على:
1. اعتراف ضمني بوجود فراغ في الدولة المدنية في ضبط المجال العقاري.
2. قيام الناس بابتكار تسمية خاصة لعمل غير قانوني، ما يعني أنه ممارسة تتكرر بما يكفي لتطلب مفهوماً لغويًا مستقلاً.
3. التجذّر الثقافي الذي يجعل “الكزرة” تُرى أحيانًا كمخرج اجتماعي، أو كحلّ اضطراري لغياب العدالة في توزيع السكن، بغضّ النظر عن شرعية الوسيلة.
وبذلك تتحوّل “الكزرة” من فعل مرفوض إلى جزء من سوسيولوجيا التحايل المدني، مما يمنح الفساد غطاءً اجتماعيًا يجعل اجتثاثه أكثر تعقيدًا.
*ثالثًا: “اتفكريش” — المبالغة في اختلاس المال العام*
أما مصطلح اتفكريش فيحيل إلى “المبالغة في الاختلاس”، أي تجاوز مجرد الغش البسيط أو الفساد المحدود إلى افتراس المال العام بدرجة تُعدّ فجّة. وهو مصطلح يحمل دلالات ساخرة لكنها خطيرة، لأنه يشير إلى حالة:
1. تضخم حجم الرشوة والاختلاس بشكل يجعل المجتمع يبحث عن لفظ جديد يصفه بدقة.
2. ظهور “طبقة” من الممارسات الإدارية التي لا تخجل من الاستحواذ الواسع على الموارد العامة.
3. تجاوز الفساد مرحلة الخفاء إلى مرحلة تُلفت الأنظار، بحيث يصفه الناس بالمبالغة (اتفكريش)، لا بالفعل ذاته، وهنا المفارقة: الاستنكار يتحوّل إلى نكتة لغوية، والجرم يتحوّل إلى خطاب ساخر بدل أن يكون موضوع إدانة قانونية.
وهذا السلوك اللفظي يعكس مدى تعايش المجتمع مع اختلالات كبيرة في النزاهة، مما يخلق مناخًا يُسهّل استمرار الفساد بدل مقاومته.
*رابعًا: اللغة كأداة لإعادة إنتاج الفساد*
تشترك هذه العبارات الثلاث في وظيفتها الخطرة:
تبسيط الفساد وتحويله إلى سلوك عادي.
تخفيف الخطأ الأخلاقي عبر وضعه داخل قالب لغوي ساخر أو شعبي.
توفير “هوية لغوية” لأفعال غير شرعية، ما يجعلها جزءًا من الثقافة اليومية.
إعفاء الفاعل من الاستهجان الصريح لأن الناس يستعيضون عن الإدانة بالنكتة أو المصطلح الخفيف.
هكذا تصبح اللغة نفسها ظهيرًا للفساد؛ فهي تبرّر، تلطّف، وتُعوّد الأذهان على قبول السلوك المنحرف دون صدمة أخلاقية.
*خامسًا: لماذا تتحوّل اللغة إلى غطاء للفساد في المجتمع الموريتاني؟*
1. إن تراجع ثقة الناس في الشفافية والعدالة، يجعلهم يتقبلون التحايل كأنّه قدر اجتماعي.
2. كذلك فتوجود فجوة بين القانون والممارسة؛ فالقانون واضح، لكن تطبيقه انتقائي أو ضعيف.
3. ولا يخفى وجود الروح الساخرة في الثقافة المحلية، التي تستعمل الضحك كآلية للتكيف مع الواقع.
4. ولا باس في كشف استمرار اللامساواة الاقتصادية، مما يجعل البعض ينظر إلى “الحوص” أو “الكزرة” كمحاولة لتعويض “الحرمان من الحقوق”.
5. ينضاف إلى كل ماسبق غياب التربية المدنية التي تربط الملكية العامة بالقيم الوطنية.
و إن توظيف مصطلحات مثل الحوص، الكزرة، اتفكريش ليس مجرد لغويات شعبية، بل هو إعلان غير مباشر عن بنية ثقافية متسامحة مع الفساد، حيث يتحوّل الانحراف من فعل إلى مفردة، ومن مفردة إلى عرف، ومن عرف إلى “مرجعية لغوية” تُستعمل بلا حرج، فتعمل — دون قصد — كظهير يحمي الفساد أو يقلل من فداحته.
ولذلك فإن مواجهة الفساد لا تبدأ بالشرطة ولا بالقضاء فقط، بل تبدأ من تفكيك المعجم الشعبي الذي يطبع الانحراف، ويحوّله من جريمة إلى كلام عابر.