أزمة المثقف الموريتاني: /تعدّد الولاءات وضعف النخبوية وتراجع التأثير الاجتماعي*

يمثّل المثقف في التجارب الحديثة رافعة للإصلاح وفاعلًا محوريًا في تشكيل الوعي، وتوجيه النقاش العمومي، وترسيخ قيم الدولة الوطنية. غير أنّ المشهد الموريتاني يكشف عن حالة بنيوية من التراجع والتشتت داخل النخبة الثقافية، ما جعل دور المثقف محدودًا وفعاليته ضعيفة. تتعدد مظاهر هذه الأزمة بين تعدّد الولاءات، وضعف النخبوية، والضياع الفكري، وتراجع التأثير في المحيط الاجتماعي. وتسعى هذه القراءة إلى تحليل هذه المظاهر وإبراز جذورها واقتراح مسارات للإصلاح.

*أولاً: تعدّد الولاءات وتفكك الهوية النخبوية*
تعاني النخبة المثقفة من حالة تعدّد في خطوط الانتماء، تؤثر على استقلاليتها وتشوّش على دورها الطبيعي:
*1. الولاء القبلي*
ما تزال البنى التقليدية قادرة على استيعاب المثقف وتوجيهه وفق منطق الجماعة، بحيث يجد نفسه –عن قصد أو عن غير قصد– متحدثًا باسم قبيلته، لا صاحب مشروع وطني مستقل.
*2. الولاء السياسي*
ينخرط عدد من المثقفين في الولاءات الحزبية الضيقة، فيتحول الدور النقدي إلى وظيفة تبريرية، وتصبح الثقافة ملحقة بالسياسة بدل أن تكون سلطة رقابية عليها.
*3. الولاء الأيديولوجي الجامد*
تستمر فئات من المثقفين في التمسك بمرجعيات أيديولوجية غير قادرة على التجدد أو استيعاب التحولات، مما يؤدي إلى انغلاق معرفي يعمّق أزمة الضياع الفكري.

*ثانياً: تأثير المال في صناعة الولاءات*
قبل بروز الفضاء الرقمي كفاعل أساسي في تشكيل الرأي العام، لعب المال دورًا حاسمًا في إعادة صياغة الولاءات النخبوية وإنتاج طبقة ثقافية مرتبطة بمراكز النفوذ الاقتصادي.
*1. تحويل المثقف إلى تابع اقتصادي*
شحّ الموارد وغياب مؤسسات دعم حقيقية جعلا المثقف عرضة للاستقطاب المالي، مما أدى إلى فقدان استقلاليته الأخلاقية وتراجع حسّه النقدي.

*2. تشكّل نخبة ريعية*
أدى انتشار المال السياسي إلى إنتاج “نخبة ريعية” ترتبط قيمتها بمستوى قربها من مصادر التمويل لا بقدرتها المعرفية. وقد عزّز ذلك:
تسييل المواقف الفكرية
تفضيل الولاء على الكفاءة
انكماش الدور الإصلاحي للمثقف

*3. إضعاف الوظيفة النقدية*
حين يصبح المثقف جزءًا من منظومة المصالح، يفقد دوره الإصلاحي ويصبح إجراءً تابعًا لتوازنات القوى، مما يفاقم أزمة النخبوية ويحدّ من فعالية الخطاب الثقافي.
*ثالثاً: ضعف النخبوية وتآكل المكانة الاعتبارية*
يتجلى ضعف النخبوية في مظاهر متعددة:
*1. غياب التخصص المعرفي*
لا تزال الثقافة العامة تُقدَّم بصفتها بديلاً عن التخصص، مما أدى إلى خطاب فضفاض غير قائم على تحليل علمي أو معرفة دقيقة.

*2. تراجع المكانة الاجتماعية للمثقف*

تحوّل المجتمع نحو تقدير الوجاهات التقليدية و”المؤثرين الرقميين” أضعف مكانة المثقف التقليدي، وقلص قدرته على صياغة التوجهات العامة.

*3. انحسار مؤسسات إنتاج الفكر*

ضعف المؤسسات الجامعية ومراكز البحث ووسائل الإعلام الرصينة ساهم في تجريف البيئة الحاضنة لخطاب المثقف.
*رابعاً: الضياع الفكري وتشتت المرجعيات*

يعيش المثقف حالة من التردد بين مرجعيات غير منسجمة:

*1. غياب مشروع ثقافي وطني*
لا توجد رؤية ثقافية جامعة تحدد هوية الدولة وقيمها، مما يجعل المثقف في حالة بحث دائم عن نموذج يستلهم منه مواقفه.

*2. ازدواجية المرجعيات*
يتنقل المثقف بين الخطاب التراثي، والمفاهيم الحداثية المستوردة، وخطابات هجينة لا تستند إلى منهج معرفي واضح.

*3. ضعف القدرة على بلورة خطاب إصلاحي*
بسبب ضبابية المرجعيات، يبقى إنتاج الخطاب الإصلاحي موسميًا ومتذبذبًا، لا ينبني على مشروع فكري متماسك.
*خامساً: ضعف التأثير في المحيط الاجتماعي*
رغم التغيرات السياسية والاجتماعية، ظل تأثير المثقف محدودًا:
*1. سيطرة الخطابات الهوياتية*
يحظى الخطاب القبلي والفئوي والشعبوي بقبول مجتمعي واسع على حساب خطاب العقلانية والمواطنة الذي يحمله المثقف.
*2. غياب المبادرة العملية*
عجز المثقف عن تحويل أفكاره إلى مشاريع، أو شبكات عمل مدني، أو رؤى إصلاحية قابلة للتطبيق، جعل دوره نظريًا.
*3. هيمنة الفضاء الرقمي*
صعود شبكات التواصل نقل مركز التأثير من النخب التقليدية إلى فاعلين غير متخصصين، مما زاد من تهميش المثقف.
*نحو إعادة بناء دور المثقف*
أزمة المثقف الموريتاني أزمة بنيوية يمكن تجاوزها عبر مسارات متدرجة:
1. على المدى القريب
دعم استقلالية المثقف عن الولاءات الضيقة.
تشجيع الخطاب الوطني في مواجهة الخطابات الهوياتية.
تعزيز الإعلام الجاد ومراكز البحث.
2. على المدى المتوسط
بناء بيئة معرفية مؤسساتية تحمي المثقف من الاستقطاب المالي والسياسي.
إدماج النخب في صياغة السياسات العمومية.
إصلاح التعليم العالي وتعزيز البحث العلمي.
3. على المدى البعيد
*تأسيس مشروع ثقافي وطني جامع.*
إعادة الاعتبار لقيمة المعرفة في بناء الدولة.
الانتقال من نخبة الوجاهة إلى نخبة الفكرة والمشروع.

زر الذهاب إلى الأعلى