عدل بكرو: المحطة الفارقة ورهان استعادة هيبة المدرس/ محمد عبد الله بين
في زيارة وُصفت بأنها محطة فارقة في الخطاب التنموي والاجتماعي لرئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني، شكّلت مدينة عدل بكرو فضاءً جديدًا للتعبير عن رؤية الدولة في إعادة الاعتبار للمدرس، ذلك الجندي المجهول الذي يبني العقول ويصوغ مستقبل البلاد في صمتٍ وتفانٍ.
*1. رمزية المكان واللحظة*
أن يختار رئيس الجمهورية مدينة عدل بكرو، الواقعة في أقصى الشرق الموريتاني، فذلك ليس تفصيلًا جغرافيًا بل رسالة رمزية عميقة. إنها منطقة نائية تمثل أطراف الوطن، حيث يعيش المعلمون في عزلةٍ عن الأهل والذوي، ويكابدون مشقة الحياة في سبيل أداء رسالة سامية هي بناء الإنسان.
بهذا المعنى، فإن زيارة الرئيس لهذه المنطقة لم تكن مجرد نشاطٍ بروتوكولي، بل اعترافٌ رسمي بمعاناة المدرس وتثمينٌ لدوره المركزي في مشروع الدولة الحديثة.
*2. المدرس: صانع العقول وحارس المستقبل*
في كلماته، ذكّر رئيس الجمهورية بأن المدرس لا يقتصر دوره على نقل المعرفة، بل هو مربي الأجيال وصائغ العقول ومهندس المستقبل.
هو الذي يقيم بعيدًا عن أسرته في مناطق نائية، يتحمل الصعاب، ويواصل أداء واجبه في ظروفٍ لا تليق بعظمة الرسالة التي يحملها. ومع ذلك، يظل صابرًا مخلصًا، يزرع بذور الوعي والانتماء في نفوس التلاميذ.
هذه الصورة التي رسمها الرئيس تعيد الاعتبار للمكانة المعنوية للمدرس، وتضعه في موقعه الطبيعي كـ ركنٍ أساس من أركان التنمية لا يقل شأنًا عن الجندي الذي يحرس الحدود أو الطبيب الذي يعالج الأجساد.
*3. الدولة والالتزام السياسي تجاه المدرس*
أكد رئيس الجمهورية بوضوح أن الدولة لن تدخر جهدًا في سبيل تحسين ظروف المدرس ماديًا ومعنويًا.
وهذا الالتزام لا ينبغي أن يُقرأ كتصريحٍ ظرفي، بل كجزءٍ من رؤيةٍ أشمل لإصلاح المنظومة التربوية، تبدأ من تمكين المعلم بوصفه نقطة الارتكاز لأي إصلاح تعليمي جاد.
إن الاعتراف بالمدرس ليس مجاملة، بل هو إدراك أن التنمية لا تبدأ من المشروعات الكبرى بل من السبورة والطبشور، من الصف الدراسي، ومن وعي الطفل الذي سيصبح غدًا المواطن والمسؤول والعامل والمهندس.
*4. المجتمع كشريك في النهوض بالتعليم*
دعوة الرئيس للمجتمع والأسرة لتكونا سندًا وظهيرًا للمدرس، تحمل بُعدًا اجتماعيًا وتربويًا بالغ الأهمية.
فالإصلاح التربوي لا ينجح بقرارات الدولة وحدها، بل يحتاج إلى تحالف وطني شامل بين المدرسة والأسرة والمجتمع.
حين يشعر المدرس بأن المجتمع يحترمه، وأن الأسرة تقدر جهده، يطمئن ويبدع ويؤدي رسالته على أكمل وجه.
إنها دعوة إلى إعادة ترميم العلاقة بين المجتمع والمدرسة، بعد أن أصابها الوهن بفعل التحولات الاجتماعية وتراجع هيبة المعلم في الوجدان الجمعي.
5. *الموازاة بين الجندي والمدرس: دلالة رمزية عميقة*
في مقطعٍ بليغٍ من خطابه، قال رئيس الجمهورية إنه كما زار كتيبة من الجيش المرابطة على الحدود وهنأها على دورها في حماية الوطن وتأمين حدوده، فإنه من عدل بكرو يقدم نفس المشاعر والمواقف للمدرس، بوصفه ركن التنمية الأساس الذي لا غنى عنه.
هذه المقارنة ليست مجرد تشبيه، بل رؤية متكاملة للوظائف الوطنية:
الجندي يحمي حدود الوطن من الخارج،
والمدرس يحميه من الداخل، من الجهل والتخلف والانقسام.
*إنها معادلة دقيقة تضع العقل* والوعي في مصاف الأمن والسيادة، وتؤكد أن الدفاع عن الوطن يبدأ من المدرسة قبل أن يصل إلى الثكنة.
*نحو عقدٍ وطني جديد مع المدرس*
زيارة رئيس الجمهورية لعدل بكرو، وحديثه الصادق عن المعلم، تمثل دعوة لإعادة بناء العقد الاجتماعي بين الدولة والمدرسة.
فالمطلوب اليوم ليس فقط تحسين الرواتب أو البنى التحتية، بل إعادة الاعتبار للمهنة نفسها، وإعادة مكانة المعلم كقدوة ومصدر احترام.
إنها لحظة فارقة في الخطاب الرسمي الموريتاني، تؤسس لرؤية تنموية تعتبر المدرس حجر الزاوية في مشروع بناء الدولة العادلة المتقدمة.
فمن المدرسة يبدأ الإصلاح، وبالمعلم تُبنى الأمم.