الفساد بين الخطر البنيوي وحتمية المواجهة: نحو جبهة شعبية مستقلة لمحاسبة المفسدين في موريتانيا/ محمد عبد الله بين

 


يُعدّ الفساد من أخطر الظواهر التي تُهدّد كيان الدولة وتُقوّض جهود التنمية والعدالة الاجتماعية. فحين تتحوّل الوظيفة العامة إلى وسيلة للثراء غير المشروع، ويُهمّش الصالح العام لصالح المصالح الشخصية، يصبح الإصلاح واجبًا وطنيًا لا يحتمل التأجيل. وفي موريتانيا، باتت محاربة الفساد محورًا أساسيًا في الخطاب الرسمي للدولة، خاصة مع التوجهات الإصلاحية التي قادها الوزير الأول المختار ولد أجاي، والتي أفرزت ترسانة قانونية متقدمة هدفت إلى تجريم الإثراء غير المشروع وتفعيل آليات الشفافية والمساءلة.
إلا أن التجارب الدولية تؤكد أن مواجهة الفساد لا تكتمل بالجهد الحكومي وحده، بل تحتاج إلى جبهة شعبية مستقلة وغير سياسية، تُجسّد الوعي الوطني الجمعي وتُراقب أداء المؤسسات دون تحيّز أو تسييس.

*أولاً: مخاطر الفساد على الدولة والمجتمع*
الفساد ليس مجرد انحراف إداري، بل هو ظاهرة بنيوية تمسّ الأخلاق العامة وتُضعف ثقة المواطن في مؤسسات بلده.
ومن أبرز مخاطره:

1. تعطيل التنمية الاقتصادية عبر هدر الموارد وتوجيهها لمصالح ضيقة.
2. إضعاف العدالة الاجتماعية بتمييع معايير الكفاءة والاستحقاق.
3. تفكيك قيم المواطنة حين يشعر المواطن أن الولاء للأشخاص يُقدّم على الولاء للوطن.
4. تشويه صورة الدولة خارجيًا وتقويض ثقة المستثمرين والشركاء الدوليين.

وهكذا يصبح الفساد تهديدًا وجوديًا لا إدارياً فحسب، إذ يضرب جذور الدولة في عمقها القيمي والمؤسساتي.

*ثانيًا: التوجه الرسمي لمكافحة الفساد في موريتانيا*

منذ سنوات، شهدت موريتانيا تحولات لافتة في مقاربة الدولة لملف الفساد. فقد اعتمدت حكومة المختار ولد أجاي نهجًا إصلاحيًا يقوم على:
تطوير الإطار القانوني والمؤسسي لمكافحة الفساد، من خلال مراجعة قوانين الصفقات العمومية وتجريم الإثراء غير المشروع.
تعزيز صلاحيات محكمة الحسابات وهيئات الرقابة، وتكريس الشفافية في التسيير العمومي.
إرساء ثقافة المساءلة في الخطاب الحكومي، وإشراك النقابات والمجتمع المدني في النقاش حول الحوكمة الرشيدة.
لقد مثّل هذا التوجه نقلة نوعية في الوعي السياسي الرسمي، إذ لم يعد الفساد يُناقش بصفته تهمة سياسية، بل خطرًا وطنيًا جامعًا يحتاج إلى تعاون جميع القوى.

*ثالثًا: أهمية الجبهة الشعبية المستقلة لمحاسبة المفسدين*

رغم أهمية الإصلاحات الحكومية، فإن الرقابة الشعبية الحرة تبقى ركيزة لا غنى عنها في مواجهة الفساد. ومن هنا تبرز الحاجة إلى جبهة شعبية مستقلة وغير سياسية، تُمثل وعي المجتمع وتشتغل خارج الاصطفافات الحزبية.

هذه الجبهة ينبغي أن:

1. تُراقب الأداء العمومي عبر جمع المعلومات والتحقق من الصفقات والتقارير المالية.
2. تُفعّل الضغط الأخلاقي والإعلامي على المفسدين والمتواطئين.
3. تُنسّق مع الهيئات الرسمية (كمحكمة الحسابات واللجنة الوطنية للشفافية) دون أن تخضع لها.
4. تحافظ على استقلالها عن الأحزاب السياسية حتى لا تتحول إلى أداة للتصفية أو الدعاية.
إن الجبهة الشعبية المنشودة ليست بديلاً عن الدولة، بل رافد وطني مكمّل يسند جهود الحكومة ويُعبّر عن الضمير الجمعي للأمة.

*رابعًا: الحماس الوطني للنخبة الموريتانية*

لقد أظهر جزء واسع من النخبة الموريتانية، من أكاديميين وصحفيين وناشطين نقابيين، حماسًا وطنيًا غير مسبوق في دعم التوجه الرسمي لمحاربة الفساد.
وقد أسهم هذا الحماس في:
إعادة النقاش حول النزاهة والشفافية إلى واجهة المشهد الوطني.
تثمين الدور الرقابي للصحافة الحرة كسلطة رابعة فاعلة.
تحفيز الوعي التربوي والأخلاقي في الأوساط الشبابية والجامعية حول خطورة الرشوة والمحسوبية.

إن هذا التلاقي بين الإرادة السياسية والإرادة الشعبية يشكل فرصة تاريخية لتجفيف منابع الفساد وإعادة بناء الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.

*خامسًا: نحو مشروع وطني لمأسسة الشفافية*
لمواجهة الفساد بفعالية، ينبغي الانتقال من الشعارات إلى مأسسة العمل الرقابي عبر:
1. إدماج التربية على النزاهة في المناهج الدراسية.
2. إحداث مرصد وطني مستقل لمراقبة المال العام.
3. تمكين الإعلام الحر من الوصول إلى المعلومات.
4. تفعيل العقوبات دون انتقائية أو حماية سياسية.
هكذا تتكامل الأدوار:
الدولة تُشرّع وتنفّذ،
والمجتمع المدني يُراقب ويقوّم،
والنخبة تُوجّه وتُنير الطريق.

الفساد ليس قدَرًا محتومًا، بل هو نتاج ضعف الإرادة والمساءلة. وموريتانيا، وهي تدخل مرحلة جديدة من الوعي الوطني، تمتلك اليوم فرصةً تاريخية لتجسيد قيم النزاهة والمحاسبة من خلال جبهة شعبية مستقلة تنبع من الضمير الجمعي، وتُكمّل الجهد الحكومي في إطار من التعاون لا الصدام.
إن الإصلاح الحقيقي لا يكتمل إلا حين يصبح الفساد عارًا اجتماعيًا قبل أن يكون جرمًا قانونيًا، وحين يتحوّل المواطن من متفرّج إلى رقيبٍ شريكٍ في حماية الوطن من التآكل الداخلي.

زر الذهاب إلى الأعلى