من خطاب وادان إلى سؤال المواطنة: من يُعيد ضبط البوصلة الوطنية؟

ليس خطاب فخامة رئيس الجمهورية في وادان مجرد تشخيص لحظة عابرة، بل هو تنبيه عميق إلى اختلال بنيوي أصاب مشروع المواطنة والوحدة الوطنية. فحين يؤكد الرئيس أن ما تحقق في سبيل تعزيز رباط المواطنة يندرج ضمن المسؤولية الحصرية للدولة، ثم يستدرك بأن ذلك – على أهميته – غير كافٍ، فإنه يضع الإصبع على جوهر الأزمة: الدولة وحدها لا تصنع مواطنين، بل تصنع أطرًا، بينما تصنع العقلياتُ والمسلكياتُ روحَ المواطنة أو تُفرغها من معناها.

 

لقد بيّن الخطاب بوضوح أن التأثير السلبي للقبلية والشرائحية والفئوية لا يمكن تحجيمه بقرارات إدارية أو نصوص قانونية فقط، بل يحتاج إلى تحول عميق في الوعي الجمعي. وهذا التحول، كما يشهد تاريخ الأمم، هو في الأساس من مسؤولية النخب الفكرية والإعلامية والثقافية، ومعها المجتمع المدني. فهذه الفئات هي التي تصوغ المعاني، وتعيد تعريف الانتماء، وتمنح الأولويات بعدها الأخلاقي والوطني.

 

غير أن المفارقة المؤلمة، التي يلمّح إليها الخطاب دون مواربة، تكمن في أن النخب الوطنية – رغم قناعتها النظرية بضرورة تعزيز الوحدة الوطنية وترسيخ المواطنة – غالبًا ما تُخضع هذه القناعة لحسابات الخلاف والصراع والتجاذب. فتغطي النزاعات السياسية والإيديولوجية على الهدف الأسمى، ويخرج مشروع المواطنة من دائرة الأولويات، بل قد تتحول بعض الممارسات النخبوية، عن قصد أو بدونه، إلى عائق حقيقي أمامه.

 

وهنا تضيع البوصلة الوطنية. لا لأن فكرة المواطنة سقطت، بل لأنها أُزيحت جانبًا لصالح ولاءات ضيقة ومعايير تناقض جوهرها. وحين تُستبدل المواطنة بالانتماء القبلي أو الجهوي أو الفئوي، فإن العقد الاجتماعي يفقد توازنه، وتصبح الوحدة الوطنية شعارًا هشًا لا سند له في السلوك اليومي ولا في الخطاب العام.

إن أخطر ما نواجهه اليوم ليس الانقسام الصاخب، بل التآكل الصامت: أن يعتاد المجتمع على تقديم الهويات الفرعية، وأن تتضاءل الآمال في صون الوحدة الوطنية دون أن يُقرع جرس الإنذار. وخطاب وادان، في هذا السياق، هو محاولة لإعادة قرع هذا الجرس.

 

إعادة ضبط البوصلة الوطنية تبدأ بالاعتراف بأن أزمة المواطنة هي أزمة قيم قبل أن تكون أزمة سياسات. وهي تستدعي شجاعة أخلاقية من النخب قبل غيرها، تضع الوحدة الوطنية فوق الحسابات الضيقة، وتعيد الاعتبار للمواطنة كمرجعية جامعة لا كمجرد شعار سياسي. كما تتطلب شراكة واعية بين الدولة والمجتمع، قوامها التربية، والإعلام المسؤول، والثقافة الجامعة، والمجتمع المدني الفاعل.

من خطاب وادان ينبثق سؤال جوهري: من يتحمل مسؤولية إنقاذ المواطنة؟ والجواب واضح: الجميع. لكن العبء الأكبر يظل على من يملكون الكلمة والتأثير. فإما أن يكونوا جزءًا من إعادة تأسيس عقد اجتماعي جامع، أو جزءًا من استمرار التيه وضياع البوصلة.

محمد عبد الله بين

زر الذهاب إلى الأعلى