الحرب على الفساد ومعوقاتها في بلادنا/ حدو الحسن

لقد بات من الواضح لكل ناظر أن الفساد في بلادنا أزمة مجتمع قبل أن تكون أزمة دولة،
فلم يعد الفساد عندنا مجرد ظاهرة إدارية أو اختلال في منظومة الحكم، بل تحول إلى بنية اجتماعية متجذرة، تتغذى من عقليات بائدة، وتُحمى بقيم مختلة، وتعاد إنتاجها داخل المجتمع نفسه قبل أن تصل إلى مؤسسات الدولة. ولهذا فإن اختزال الفساد في فشل السلطة التنفيذية وحدها يعد قراءة قاصرة، لأن المجتمع للأسف أصبح شريكا أساسيا في صناعة الفساد واحتضانه.
أولا الجذور الاجتماعية للفساد
منذ عقود، وخصوصا منذ مرحلة حكم معاوية ولد الطايع، شهد المجتمع الموريتاني تآكلا تدريجيا في منظومة القيم. حيث تراجع مفهوم الدولة ومفهوم النزاهة الذي أسس له المختار ولد داداه وتحول الثراء السريع إلى معيار للنجاح الاجتماعي، بغض النظر عن مصدره أو مشروعيته. لم يعد الفاسد منبوذا، بل صار في كثير من الأحيان نموذجا يحتذى، وصاحب “فطنة” و”اتفگريش”، بينما ينظر إلى النزيه نظرة دونية باعتباره فاشلا ساذجا أو عاجزا عن “تدبير أموره”.
هذا التحول القيمي الخطير جعل المجتمع يحمي المفسدين، لا بدافع الجهل فقط، بل أحيانا بدافع المصلحة الضيقة، أو العصبية القبلية، أو الخوف، أو الطمع في الفتات.
ثانيا المجتمع كحاضنة للفساد
الفساد لا يعيش في فراغ. إنه يحتاج إلى بيئة اجتماعية تتسامح معه، بل تبرره. وعندما تصبح الرشوة “تيسيرا”، والمحسوبية “معرفة”، ونهب المال العام “شطارة”، فإننا نكون أمام مجتمع ينتج الفساد بدل أن يقاومه.
لقد أضحى التنافس الاجتماعي في كثير من مستوياته سباقا محموما نحو التحصيل السريع، دون اعتبار للقانون أو الأخلاق. وهذا ما يفسر كيف تتكرر نفس الوجوه الفاسدة، وكيف يعاد تدويرها، وكيف تفشل محاولات الإصلاح كلما اصطدمت بجدار اجتماعي صلب.
ثالثا حدود دور الدولة وحدها
حين قال الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني في “چيگني “إن الفساد يحتضنه المجتمع، ولا يمكن للسلطة التنفيذية وحدها أن تحاربه، فقد أصاب جوهر المشكلة. فالقوانين مهما كانت صارمة، وأجهزة الرقابة مهما كانت قوية، تظل عاجزة إذا كان المجتمع نفسه يتواطأ بالصمت أو التبرير أو المشاركة. فالقضاء لا يعمل في فراغ، والرقابة لا تنجح في بيئة تمجد الفساد، وتخيف المبلغ، وتُشيطن المصلح. لذلك فإن الاكتفاء بإصلاحات قانونية دون إصلاح ثقافي وأخلاقي محكوم عليه بالفشل.
رابعا نحو إصلاح شامل يبدأ من المجتمع
إن محاربة الفساد في موريتانيا تتطلب ثورة قيم قبل أن تكون حملة إدارية. ثورة تعيد الاعتبار للعمل الشريف، وتربط الكرامة بالنزاهة لا بالثروة، وتُحمل المجتمع مسؤولية خياراته وصمته.
إن الإصلاح الحقيقي يبدأ من الأسرة في التربية على القيم لا على “التحايل” والمدرسة في ترسيخ مفهوم المواطنة لا الخضوع للقبيلة، ووسائل الإعلام في فضح الفساد لا تلميعه، والنخب المثقفة في تحمّل مسؤوليتها الأخلاقية بدل التواطؤ.
إن الفساد في بلادنا ليس قدرا محتوما، وليس مشكلة سلطة فقط. إنه مرآة لمجتمع اختل ميزانه القيمي، ولن يستقيم حال الدولة ويقضى على للفساد فيها ما لم يُراجع المجتمع نفسه، ويكسر حلقة إنتاج الفساد، ويتوقف عن حماية المفسدين. فالدولة لا يمكن أن تكون أنظف من مجتمعها، ولا أقوى من ضمير مواطنيها.ف “كما تكونوا يولي عليكم”
(وكذلك نولي بعض الظالمين بعضا بما كانوا يكسبون)
(إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)
صدق الله العظيم.