في ظلال الحروف / المختار السالم
أي اغترابٍ طوعيٍّ في الفضولِ؟ لا أدري!
في حدود ثمانينات القرن الماضي، كان الطفل “أحمد” بين نعمتين عظيمتينِ.. نعمة الاقتراب من الحصول على الإجازة في حفظ القرآن الكريم، ونعمة ثروة عائلته من “الكسب الأبيض”، التي تطلق على الإبل والغنم.
لا يعلم “أحمد” أنهُ سيعاني مشكلة كبيرة حين تلبسه الشعر، فلكثرة ما قرأ منه صار لا يرضى بمستوى ما يقرضه من الشعر.. ويا ليته “رَدَّها” على “بالوناتِ الوهمِ الشعريِّ”، التي “تعتقلُ هواء بلا عفاريت”.
من مكانته “كشاعر على الصامِتِ”، وقع “أحمد” في هواية “فنِّ الخط العربي”، فأدمن الرسم بالحروفِ في محترفٍ صغيرٍ في بيته.. لكن “أحمد” قدر له أن يتورط أكثر مع الجمال في مسيرتِه، فجرفهُ مَجْرًى آخرَ نحو مصبِّ الموسيقى ليتخصَّصَ في “أزوان”.. وهنا دخل “حياة الكبار” ومشاكل الثقافةِ والفنِ والفكر و”شيء من الأيديولوجيا الحالمة” بيقظةِ الاتزانِ بين “الآخرين”.
في طفولته، كانَ “أحمد” حريصًا على التقاطِ ما أينعَ من أحاديثِ الكبارِ، وكانَ معلمهُ الأول هو والدهُ العالم الشريف أحمد بن صالح.. كان ذاتَ يوم في ضواحي “أوكار” بالحوض الغربي، وكما تعلمون “أوكار” جزء من المجابات المُمتدةِ بين مقاطعتي “تمبدغه” بالحوض الغربي و”تيشيت في “تكانت”.. “أوكار” منطقة شموخ الكثبان الرمليةِ الواقعةِ في حدودِ سلسلةِ الجبالِ المعروفةِ بـ”الظهر”.
عفوا، لا تنسوا أننا لسنا هُنا في درس جغرافيا.. وأنا لا أريدُ أن يسخرَ مني من لا يزالُ محافظاً على المَسَافةِ مع الشجرةِ المحرمةِ.
في “الظهر”.. أنواع الصخور والحياةِ الصخريةِ.
لكن في ضواحي بعيدةٍ من الصخُور تحضرُ هذه الأخيرةِ في حياة الناسِ على شكل “صَوَّانة”(التيمشه)، وهي قطعٌ صغيرةٌ ترصُّ مع الزنادِ وقُطْنِ “القَدْحِ” (يور) في محفظة جلدية تحظى بعناية خاصة، لأنها الوسيلَةَ الأولى لإشعال النار لأغرَاضِ الإنارة في الليل والطبخ وإنتاجِ الفحمِ وحرق البخور وتسخين المحلاب ومسامير الكي والمياسم.. إلخ.
غير أن اختيار تلك الحجارة، يخضعُ لمعايير كثيرة.. وهناك مختصونَ في نوعياتِها وجودَتِها ووفرةِ شرارتها.
يتذكر “أحمد” أن والده أخبره أنَّ أحجار المفازة التي تمر عليها ثلاث سنوات دون المطر تفقد شرارتها أو يضعف فيها مستوى الشرر إلى أدنى حد، فلا تفي بالمطلوبِ منها.
سبحان الله.. حتى الحجارة تفقدُ روح الشرارة فيها إن لم يصبها رزقها من السماء ماءً.
ذكرتني قصة المطرِ والحجرِ والشررِ، هذهِ، بموضوع “المعرفة البيئية التراثية في مجتمعنا القديم”.. لقد كانَ مجتمعًا بيئيا بالفطرة والتجربة والواقع.
وسواء كان صحيحًا ما نقل من تلكَ المعارفِ والخبراتِ المتراكمةِ على مر الأجيال والحاجة، أو كان ظنا وتوهما، أو خطأ، فقد آن الأوان لنقدحَ شرر الإنذار من اختفاء ذلك “التراث البيئي” من معايشة الناس وتجاربهم في هذا الإطار.
إن ما لدي من بال، ولا داعي للسخرية، مشغول جدا بقضيةِ “البيئة الثقافية الموريتانية”، التي لم يعد لها وجود، بنسبةٍ كبيرةٍ، إلا في مروياتٍ يتراجع منسوبها يومًا بعدَ آخر جراءَ رحيل “المكتبات الصوتية التي تمشي على قدميها”. وأكثر المتبقي من تلك الحواضنِ يعيشُ بعيدًا في مفازةِ الرعي والفلاحة، ويندثر من خطابها اليوميِّ ما كان مألوفا من معرفة بيئية كان دافعها الحاجة والاستغلال إلى تلك الأدواتِ.. وكمثالٍ، أين اليوم، هذا الذي يحتاج “تلك الخبرة والأدوات” القديمةِ في ظلِّ توفر “وسائط الاشعال” التي تجاوزت حرارة طبعِ الكبريتِ إلى ولاعاتِ الليزر… إلى ما هو أحدث. وإذنْ، ما بالك بما تأبط سفوحَ النسيانِ من مرويات وأمثالٍ وحكم وصور أدبية في “الخطاب اليومي السابق” المندثر!