خطاب رئيس الجمهورية في انبيكت لحواش: دعوة لإصلاح اجتماعي وبناء دولة المواطنة

يُعدّ خطاب فخامة رئيس الجمهورية محمد ولد الشيخ الغزواني في انبيكت لحواش من أبرز الخطابات السياسية ذات البعد الإصلاحي والاجتماعي في التاريخ الحديث لموريتانيا. فقد اتّسم بالوضوح والجرأة في تشخيص مكامن الخلل البنيوي داخل المجتمع، وتناول بصراحة غير معهودة الأمراض الاجتماعية المعيقة لبناء دولة المواطنة والتنمية، مثل القبلية، والفئوية، والجهوية، وما تخلّفه من رواسب سلبية في الوعي الجمعي والممارسة اليومية.

هذا الخطاب لم يكن مجرّد موقف سياسي عابر، بل تحول في الرؤية الرسمية تجاه قضايا الوحدة الوطنية والعدالة الاجتماعية، مما يجعله وثيقة مرجعية في مسار الإصلاح الوطني الراهن.

 

*أولًا: دلالات الخطاب الرسمي وعمق التحول في الرؤية*

 

جاء الخطاب في سياق وطني يتّسم بتحديات متشابكة؛ سياسية واجتماعية واقتصادية، حيث باتت العصبيات الضيقة تهدد النسيج الوطني وتعيق جهود الدولة في التنمية والتماسك الاجتماعي. وقد حرص الرئيس في خطابه على إعادة تعريف مفهوم المواطنة على أساس الكفاءة والانتماء للوطن، لا للقبيلة أو الفئة، مؤكدًا أن الدولة العصرية لا تُبنى إلا على قاعدة المساواة أمام القانون والعدالة في الفرص.

 

وتميّز الخطاب بنبرة إصلاحية واضحة، تعكس تحولًا في الخطاب الرسمي من التوصيف إلى المواجهة؛ من المجاملة السياسية إلى الصراحة الوطنية، في اعتراف صريح بأن بقاء هذه البُنى التقليدية المتصلبة يشكّل عقبة أمام التنمية ويقوّض أسس الدولة الحديثة.

إن تثمين هذا الخطاب واجب وطني، لأنه ينقل النقاش من الهامش إلى الجوهر، ويضع الإصبع على موطن الداء بدل الاكتفاء بسطح الظواهر.

 

 

*ثانيًا: القبلية والفئوية والجهوية… أمراضٌ اجتماعية مزمنة*

 

تناول الرئيس في خطابه ما يمكن تسميته بـ الأمراض الاجتماعية الموروثة، التي كرّست التمييز والتفاوت، وحالت دون تكافؤ الفرص. فالقبيلة التي كانت في الماضي إطارًا للتكافل والحماية، تحوّلت اليوم — في بعض مظاهرها — إلى أداة إقصاء وتكريس للتراتبية. والفئوية أنتجت شعورًا بالغبن الاجتماعي، بينما غذّت الجهوية النزعات الانعزالية التي تهدد وحدة الانتماء الوطني.

 

هذه الظواهر، كما أوضح الخطاب، لا تُواجه بالخطابات وحدها، بل تحتاج إلى إصلاح تربوي وثقافي ومؤسسي يعيد الاعتبار للقيم الوطنية الجامعة، ويُرسّخ فكرة أن الانتماء للوطن فوق كل الانتماءات الجزئية.

إن استمرار هذه الأمراض الاجتماعية يعني بقاء الدولة رهينة الولاءات الضيقة، ويجعل سياسات التنمية عرضة للشلل والتنازع بدل التنافس البناء

 

*ثالثًا: خطاب الرئيس كرافعة لمشروع بناء الدولة الوطنية*

 

يأتي خطاب انبيكت لحواش منسجمًا مع المشروع المجتمعي للرئيس الغزواني، القائم على العدالة والمواطنة والتنمية المتوازنة. فالرئيس يدرك أن التنمية لا يمكن أن تزدهر في ظل مجتمع ممزق، ولا أن تتحقق العدالة في ظل هويات متناحرة. ومن هنا، يشكّل هذا الخطاب ركيزة فكرية لتجديد العقد الاجتماعي في موريتانيا على أسس جديدة تقوم على الإنصاف والمساواة والتعايش.

 

كما أنه يحمل دعوة صريحة للنخب السياسية والعلمية والدينية والإعلامية لتحمل مسؤولياتها في مساندة الدولة في حربها على العصبيات الضيقة، ونشر قيم الانتماء والمواطنة الواعية. فالإصلاح المجتمعي لا ينجح بقرارٍ من السلطة وحدها، بل بتضافر جهود المجتمع بكل فئاته ومؤسساته.

 

*رابعًا: مقترحات الحلول على المدى القريب والمتوسط والبعيد*

 

إنّ مواجهة الأمراض الاجتماعية المعيقة لبناء دولة المواطنة ليست مهمة ظرفية، بل مسار إصلاحي طويل الأمد يتطلب رؤية شمولية وتكاملًا في الأدوار بين الدولة والمجتمع. وفي ضوء خطاب فخامة رئيس الجمهورية في انبيكت لحواش، يمكن بلورة حزمة حلول عملية وفق ثلاث مراحل زمنية مترابطة:

 

1. **على المدى القريب (1–2 سنة):** تعزيز الوعي وتفعيل القوانين

 

الهدف: معالجة المظاهر العاجلة للعصبية والتمييز، وإطلاق خطاب وطني جامع.

 

*الآليات المقترحة:*

 

*تنظيم حملات توعوية وطنية* تشرف عليها وزارات الثقافة، والإعلام، والشؤون الإسلامية، تركز على قيم المواطنة، ونبذ العصبية، والعدالة الاجتماعية.

 

*تفعيل القوانين الموجودة ضد التمييز والكراهية،* مع ضمان تطبيقها بعدالة وشفافية.

 

توجيه الإعلام العمومي والخصوصي نحو نشر ثقافة الوحدة والتنوع الإيجابي، وإبراز النماذج الوطنية الجامعة بدل الخطابات التفكيكية.

 

*إدماج موضوع المواطنة في المناهج الدراسية* ، خصوصًا في التعليم الأساسي، لترسيخ مفهوم الانتماء للوطن في سن مبكرة.

 

إشراك الزعامات التقليدية والدينية في التوعية بخطورة الانغلاق القبلي والفئوي، باعتبارها جهات ذات تأثير شعبي مباشر.

 

*2. على المدى المتوسط (3–5 سنوات):* إصلاح بنيوي للمؤسسات والسياسات

 

*الهدف: ترسيخ مبدأ المساواة وتكافؤ الفرص داخل مؤسسات الدولة والمجتمع* .

 

*الآليات المقترحة:*

 

*إصلاح النظام التربوي لتكريس قيم العدالة والمواطنة* ، وجعل المدرسة الوطنية حاضنة للوحدة، لا مرآة للتفاوتات الاجتماعية.

 

*إعادة هيكلة سياسات التوظيف والتمثيل* بحيث تعتمد معايير الكفاءة لا الانتماء الاجتماعي أو الجهوي.

 

*توسيع اللامركزية التنموية من خلال تمكين المجالس الجهوية والمحلية* من المشاركة في رسم الأولويات، بما يعزز الثقة بين الدولة والمجتمع.

 

*إنشاء مرصد وطني للتماسك الاجتماعي يُ* عنى بمتابعة مؤشرات العدالة والمساواة والانسجام الوطني، ورفع تقارير دورية للسلطات.

 

*تعزيز المشاركة الشبابية والنسائية في الفضاء السياسي والمدني* لضمان تجديد النخب وتخفيف التمركز الاجتماعي التقليدي.

 

3. *على المدى البعيد (5–10 سنوات): ترسيخ ثقافة* المواطنة والتنمية العادلة

 

الهدف: تحقيق تحول ثقافي ومؤسسي دائم يجعل من المواطنة المرجعية العليا للهوية الوطنية.

 

*الآليات المقترحة:*

 

*إعادة صياغة العقد الاجتماعي الوطني عبر حوار وطني شامل يُؤسس لمفهوم جديد للمواطنة المتساوية* .

 

تحقيق العدالة في توزيع الثروة والمشاريع التنموية وفق معايير الاحتياج والجدوى، لا الولاءات الجهوية أو السياسية.

 

**تعزيز دور الجامعة ومراكز البحث في دراسة التحولات الاجتماعية وتقديم حلول علمية لصيانة الوحدة الوطنية* .

إطلاق برامج ثقافية وفنية وطنية (مهرجانات، مسلسلات، أفلام وثائقية) تروّج للهوية الجامعة وتكرّس رموز الوحدة الوطنية.

 

*تحقيق الاندماج الكامل بين مكونات* المجتمع من خلال سياسات إدماجية تراعي التنوع وتحتفي بالاختلاف في إطار المواطنة المشتركة

بهذه المقاربة المتدرجة، يمكن ترجمة مضامين خطاب رئيس الجمهورية إلى مشروع وطني شامل للإصلاح الاجتماعي، يعيد للدولة قوتها الرمزية، ويحرّر المجتمع من قيود العصبية والتراتبية. فنجاح هذا المشروع مرهون بمدى تفاعل النخب والمجتمع مع الدعوة الرئاسية لتجديد الوعي وبناء وطن يتساوى فيه الجميع في الحقوق، والفرص، والكرامة.

إن خطاب رئيس الجمهورية في انبيكت لحواش ليس مجرد بيان سياسي، بل مشروع وطني لإعادة بناء الوعي الجمعي على أسس المواطنة الصادقة والعدالة الاجتماعية. لقد أعاد هذا الخطاب الاعتبار لقيمة الصراحة في العمل السياسي، ووضع الجميع أمام مسؤولياتهم في مواجهة التخلف الاجتماعي الموروث.

 

وإذا كانت الدولة قد بدأت بالفعل في بلورة سياسات تنموية تراعي العدالة المكانية والاجتماعية، فإن ترجمة مضامين هذا الخطاب إلى برامج تربوية وثقافية وتنموية عملية تظل الخطوة الحاسمة نحو تحقيق دولة المواطنة والتنمية التي دعا إليها فخامة الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني.

 

فالوطن لا يُبنى بالعصبية، بل بالعقل والعدالة، ولا ينهض بالانتماء الضيق، بل بروح المواطنة الجامعة التي تحتضن الجميع في ظل المساواة والكرامة.

زر الذهاب إلى الأعلى