أعلام من زمن السعة وانتفاء الأحادية السلبية:

ابدأ توطئة بموضوع الصورة المرفقة، واخلص تدريجيا لبعض تفاصيل الموضوع
.. في الصورة، العميد والاستاذ Idoumou Mohamed Lemine Abass يتحدث عربية فصحى خلال حفل لنادي قدماء تلاميذ ثانوية لعيون (الغنية عن التعريف)، ولم يخطب فيهم بالفرنسية كما يستسهل بعضنا اليوم احيانا وربما تأفف فيه من العربية، ولو شاء ادومُ الفرنسية لفعل لكونه احد سدنة لغة موليير و”ختيارية”ها في المصر، دراية وتدريسا وكتابة صحفية وأدبية.
في ذلك عبرة لمن يتحججون عند كلامهم في الندوات والمؤتمرات المحلية حتى تلك الموجهة منها لجمع كله من جمهور العربية ورديفتها الحسانية، فيأتون بخطب خشب مسندة من ممجوج الفرنسية الغريبة في سياقها ذاك؛ فيقحمون تلك اللغة الجميلة فيما ليس سياقها الموضوعي، فلا هو بالمؤتمر العلمي الثقافي الخاص بثقافتها وتعليمها مثلا ولا هو بالمحفل العالمي او الاقليمي المتفرنس الذي لا يعرف اغلب جمهوره العربية مثلا (حتى في تلك الحالة، ان تعلق الأمر برىيس مثلا، يمكن التحدث رسميا بالعربية مع وجود مترجم فوري). وعلى الطرف الآخر يكون لاولئك المبالغين في فرنسة الخطاب، مقابلٌ سيمتريٌ يتعصب للعربية هذه المرة وصولا لجعل الفرنسية جُذامًا لسانيًا يهرب منه وعامل استلاب يسعون لاستئصاله. طرفا نقيض قد تسوَّرا محراب الموضوعية مولين لها القفا.
الزبدة:
الاجيال الأولى والمخضرمون مثل استاذنا ادومُ ورفاق درب أخرين لا يفضل احدهم الآخر ولكل منهم ميزته، هم نموذج لانتفاء الاحادية اللغوية التي يريد بعض المتأخرين التحجج بها من هذا الطرف او ذاك خلطا للسياقات وتشبيكا للخيوط عبثا في قضايا حساسة كالهُوية والوطنية والتعليم. تلك الأحادية انتجت نخبا شبه جاهلة بمحتوى عالمي واسع وضحية للترجمات الرديئة احيانا بدل الاطلاع بلغة المجال الاصلية، كما انتجت تلك الحالة ركودا في جودة الترجمة الأدبية محليا لوجود جسر الترجمة (دون شغف ودراية باللغة) الذي قد لا يكون كافيا في مجالات الفكر والثقافة.

حصل لي شرف (وحظ) التبعية للعميد ادوم في مناسبة سابقة منذ اكثر من عقد -وهو عموما أخ أكبر مقرب- ولقد استفدت من تلك الفرصة القصيرة اشياء كثيرة، ومن اطرف ما اذكره منها واكثره فائدة علي لاحقا، وهو خادم للموضوع هنا ودليل على علو كعب الاستاذ واخلاقه الرفيعة وتواضعه ومهنيته:
انه ورد الينا تقرير معد بالفرنسية من مكتب دراسة معين وكان علينا ترجمته الى نسخة بالعربية وتمحيصه ودراسته للمشاركة في اعمال اجتماع متعلق به كنا الجهة المنظمة له فنيا. بعد استلام الاستاذ ادوم للتقرير بالفرنسية -وكنت قد اطلعت عليه جملة واعتبرته جيدا، بسذاجة ال “الآرابيزانه” لعلبابي متدني المستوى في الفرنسية- اعمَلَ فيه ادوم قلمه بدقة وتمحيص للنص الفرنسي أصلا ثم لتكون الترجمة بعد ذلك. اذكر انه قال مستغربا وممتعضا وبروح طرفة :Il a fallu ‘récrire’ le document pour qu’il soit traduisible يقصد ان نحو التقرير وتركيباته؛ كل ذلك كان سيئا للغاية، وان ترجمته دون “تمغاط” تلك “اتشكريفات” ستجعل النسخة العربية اسوأ دون ادنى شك. تأكدت من ذلك تماما عند مباشرتي لبعض النص لترجمته الى العربية إذ بدا فعلا أنه شتان ما بين النسختين الفرنسيتين فكانت كقول الشاعر في اليزيدين
يزيد بن عمرو والأغر بن حاتم

لَشَتَّانَ مَا بَيْنَ اليَزِيْدَيْنِ فِي النَّدَى — يَزِيْدَ سليم والأغر ابن حاتم

فَهَمُّ الفَتَى الأَزْدِيِّ إِتلاَفُ مَالِهِ — وَهَمُّ الفَتَى القَيْسِيِّ جَمْعُ الدَّرَاهِمِ

فالاستاذ لم يكترث لتضاعف الجهد بأن يبذل ويتعب ليقوم بتعَهُّد عمل اهمله صاحبه اصلا، لأنه يعتبر مرور التقرير عليه مدعاة لمساءلته ادبيا وهو غيور على اللغة صحة تركيب. الأصعب في الامر انه قام بذلك العمل الدقيق مع تحفظ كامل على بقاء النص كما هو وفق التزامات المهنية وتكريس بغية الكاتب الاصلي!

ادومُ، من وجهة نظري، وأنا المتابع من دهماء القوم، وعلى حد علمي القاصر، يعد ضمن اربعة اشخاص وطنيا، مرجعية في كلام الفرنجة، لكن خاصية الرجل انه درَّسها في مساقات متنوعة، واحتك في زمالاته ورفقته باهلها المتوسعين فيها الشغوفين بجمالها على شاكلة الاستاذ بيروك وحبيب ول محفوظ رحمه الله وأضيف من لدني – رغم كونه ليس مهتما بالبروز والدعاية – الاستاذ العميد سيد ابّه Hamoud Sidibe الذي سعدت واستفدت كثيرا ببعض الفرص في رفقته خلال وجودي بوزارة الاقتصاد، فهو احد اعلام هذا الفن غير المسلطة نحوهم اداة الاعلام الدعائي، وأحد المثقفين النبلاء غير الراغبين في البهرج والتكلف. والى علو كعبه في الفرنسية وثقافتها، اذكر ان خطه باليد بديع لا يماثله خط مما صادفني، وكانت الوثيقة اذا مرت بالاستاذ سيد ابّه، تكون قد مرت بالفلتر التدقيقي المطلوب ورُفعت عنها الاقلام وجفت صحيفتها لغويا.

والشيء بالشيء يذكر،
لا ازال اذكر شهادة الاستاذ سيد ابَّه في ادوم، حين ذكرت اسمه امامه في مكتبه في ادارة التخطيط والبرمجة، فذكر زمالتهما في جريدة الشعب وزكاه ببشاشة وجه وتنبيه وتنويه قائلا: “ادوم بعد من اهل الفرنسية”. وتلك شهادة لمن يعرفون سيد ابه وكونه لا يجامل في الحكم النقدي الفني مطلقا.

سقت تلك النماذج 👆 لأنبه جيلي واجيالنا اللاحقة ال ماه اباس متبرك مستواها حته في اللغتين وثقافتيهما لدرجة الضعف واللحن الجلي فيهما، وبعضها متعصب لاحداها دون تبين في تمايز اللغة عن القومية، وبعضها منسلب دون انضباط، ان ثمة جيلا سبقنا لم يكن كذلك فجمعوا سعة الاطلاع وتنوع الأداة دون تخندق او تكلف، وانهم يستحقون الإكبار والتقدير كلما سنحت فرصة مناسبة لذلك، وأن التقصير منا ان اغفلنا ذلك او تأخر من جانبنا.
.
.
(ملاحظة بشان كلمة وردت في النص خلال استحضاري لعبارة الاستاذ وقد لا اكون نقلتها حرفيا بل صغتها من لدني:
انبه الى أن Récrire و Réécrire كلاهما تصح، وإن كانت الأولى “حضْرمية” يمانية في أصليتها لدى الفرنجة، والأخيرة مستحدثة لكنها سارية في الاستخدام.
اقول ذلك لسببين: أنني مبتدئ ركيك المستوى في الفرنسية يكتب بحضرة العميدين، وكذلك لتوقعي بعض اشكَارة من بعض الفسابكة الل اعجالة ويترصد بعضهم الخطأ كأنه فتح القسطنطينية 🙂 )
.
** “الختيارية” استعارة لهجية درامية من اللهجة السورية في دبلجة بعض الدراما التركية؛ تعني الكبيرين في السن المالكين اسرار مجال معين حصريا

#إلذاك

من صفحة المدون عبد الله محمد 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى