تسجيلات المستشار.. خلافة نخبوي بالشعبوية!
محمد عبد الله لحبيب
—
تسجيلات المستشار.. خلافة نخبوي بالشعبوية!
استمعت، وأعدت الاستماع، للتسجيلات المنسوبة إلى المستشار الأستاذ أحمد ولد هارون ولد الشيخ سيديا، وكنت في كل مرة أسمع فيها الكلام أقول لنفسي: لقد قرأت أو سمعت هذا من قبل، وبعد مغالبة تفكير أسعفتني الذاكرة ببيان قد لا يتذكره كثير منا اليوم.
1. وضع الأستاذ مقالته في هالة من المقولات التي يقدمها على أنها خلاصات لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها، وهي في الحقيقة مقولات لرجال ينتمون لسياقات وتجارب مختلفة، لا يكون معها القياس قياسا مع وجود الفارق، ولكنه قياس مع البون الشاسع، الذي يتحول معه القياس إلى إسقاط فج يربأ العاقل بنفسه عن أن يلج موارده.
2. ليس في حديث الأستاذ أي جديد، إلا تغيير في اسم الرئيس، فأغلب الحديث المضمن في التسجيلات قيل على هذه الأرض في بيان موقع، ربما خرج من نفس الغرفة التي تحدث منها الأستاذ في المجموعة المغلقة التي يسميها “النادي”، وكانت تسمى من قبل “الرأي السياسي” ولكم أن تقرؤوا هذه الفقرة:
“لقد كنا نظن أن الرئيس محمد ولد عبد العزيز ومن معه سيسْعَوْن ويَشْرَعُون – مع الوقت – في بناء نظام منسجم وفعال، وأنهم لن يقتصروا ويكتَفوا بإقامة سلطة سطحية، بلا قيادات ولا رجال مسؤولين ولا أدوار موزعة ولا مؤسسات حزبية أو مدنية ولا إعلام… كل ما نراه هو قرارات عشوائية وارتجالات تفتقر إلى الإنضاج في فُرْن النقاش السياسي والدراسة والتمحيص”. “.. ما تعرفه الإدارة المركزية والإقليمية من ضعف متزايد وتخبُّطٍ وإهمال وارتجال ومحسوبية…”.
بعد هذا التشخيص يخلص المكتوب سنة 2014، والمقول سنة 2021 إلى أن “الجواب الموضوعي، هو – بلا شك – أن النظام الحالي لا يمكنه البقاء، إذا استمرت نفس الصيغ ونفس العلاجات الفوقية والتهديئية”.
ويستطرد المكتوب حينها المقول الآن أن مشاريع الانقلابات التي تؤدي إلى الفوضى، ستكون جاهزة، يسميها الأستاذ الآن “الفوضى” ويسميها المكتوب “المجهول”.
3. هذا التشخيص كتب قبل سبع سنوات من طرف مجموعة أطلقت على نفسها “مجموعة الرأي السياسي” وكان منصبا على نظام الرئيس حينها محمد ولد عبد العزيز. مجموعة الرأي السياسي هي نادي طلبة المرحوم محمد يحظيه ولد بريد الليل، وكانوا حينها يعلنون مغاضبتهم للرئيس السابق، مع الاحتفاظ بموقع الداعم له.
4. شُرحت الفقرات أعلاه، وتم التركيز على الاستشهادات من مذكرات الجنرال ديغول، ولكن الإطار النظري الحقيقي للتسجيلات هو مقولات الأستاذ الراحل التي ختم بها الأستاذ “المترشح للخلافة” التسجيل الثالث.
5. إن اجترار مقولات الأستاذ الراحل لا يقل خطلا عن إسقاط مقولات بيان مكتوب في ليلة من شتويات 2014 على حال البلاد صيف 2021. وقد استدار الزمان، وتغير الرجال. وإن تحليلات لم تصدق سنة 2014 يوم قيلت، ولا صدق استشرافها، لهي أحرى ألا تصدق سنة 2021. فهلا جدد الأستاذ شيئا قليلا؟
هذا في الشكل، أما في المضمون:
6. أعتقد أن الدكتور أحمد ولد هارون قدم تحليلا مائلا لوضع نظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني، ضمنه بعض الملاحظات التي قد تكون صحيحة، وبعضها قد يكون مفيدا، لكنه تحليل محشو بالمبالغة المفرطة التي تذهب بريق الصواب، ولا تخلو من تحامل.
7. حين يهون ولد الشيخ سيديا من حقيقة التحدي الذي يمثله ملف الرئيس السابق للدولة، والتحدي الذي تمثله جائحة كورونا؛ فلا أعتقد أنه يصدق ما يقول. إن الأزمات السياسية التي يخلقها حزب سياسي، قد تعيق أنظمة ودولا، فكيف بتلك التي يكون الطرف فيها ممسكا بزمام الأمور لمدة اثنتي عشرة سنة لا تند عنه شاردة ولا واردة!.
لا يمثل الرئيس السابق وملفه تحديا للنظام، أو للجهاز السياسي، بل يمثل تحديا وجوديا للبلد؛ فهذا الرجل لديه المليارات، والعلاقات بكل أفاعي هذا الأرخبيل المنكوب، وكان لمدة عقد من الزمن موئل كل المعلومات، وبينت التجارب أن لا وازع لديه، فكيف يريدنا الدكتور ألا نراه تحديا!. ومع ذلك لم يتخذ النظام من ملف ولد عبد العزيز ذريعة لتضييق الحريات، ولا حجة لصرف أموال، أو تبرير شيء مما كانت تفعله الأنظمة التي عايشناها صامتين.
كان النظام واعيا بخطر ولد عبد العزيز على موريتانيا، ولكنه وضع الأمر في قنواته الطبيعية، وأخذت كل جهة اختصاص في الدولة ما يعنيها من الملف؛ فشكل البرلمان لجنة، وأحالت الحكومة الملف، وباشر القضاء عمله. وفي الدولة أجهزة أخرى تعمل بمقتضى مسؤولياتها، ووفق اختصاصاتها. وبإيقاع منضبط بيد غير مرتجفة، ولا واجفة.
أظن أن تجاوز ملف ولد العزيز دون التطرق إلى حصافة المعالجة التي فيه تجن وتجاوز، لا ينبغي. والدعوة إلى تحويله “عزلا سياسيا” أو “اجتثاث بعث” لا تناسب بلدنا، كما لم تناسب بلدانا أخرى طبقت فيها. ولكن ذاكر العيب يفقد بعض كيسه أحيانا!. وقد ينسى المؤرخ!.
أما ضرر كورونا فهو شيء ما كان ليفوت على الدكتور، فقد تهاوت أمامه أنظمة صحية، واهتزت عروش، وسقط رؤساء، واستقالت حكومات. ومع ذلك لا يراه الدكتور عذرا، ولا مسوغا لتعطل بعض المشاريع.
هذا مع أن موريتانيا لم تتخذ منه ذريعة لتعطيل أي من مشاريعها. بل واجهته بإمكاناتها الذاتية وتجاوزت عقبته بسلام. توجد بعض الملاحظات على عملها، وعلى استجابة إدارتها الصحية للجائحة، منها عدم القدرة على استثمار الأزمة وتحويلها إلى فرصة، ومنها شوائب في تسيير الصندوق.. نعم يوجد كل هذا، ولكن يوجد أيضا أن الدولة تدخلت حيث يجب أن تفعل، وأنها واست المحتاجين بما تملك، وأنها عبأت الموارد في وقت قياسي، وأن دبلوماسيتها استجلبت اللقاح.
8. خاض الدكتور في كثير من العموميات، حول السياسات العامة، ودور المثقفين ومن يستشيرهم الرئيس ومن لا يستشيرهم. وكان ديغول، وهوشي منه، حاضرين في كلامه، ولكن الذي كان حاضرا في الذهن أكثر على ما يبدو هو مقولات الأستاذ ومسلماتها التي ترقى إلى حدود التعالي.. وخلافته!
مرد هذا الحديث إلى أن الرئيس لم يقبل الخضوع لوصاية مجموعة من صناع الرأي، ولم يرتهن لفكر أحد، وكان اختياره أن من انتخبه كل الموريتانيين بمشاربهم، وخلفياتهم، فأولى به أن يحكم بكل الموريتانيين، وأن يسمع منهم، دون أن يكون ملزما بوصفة جاهزة يعدها فلان من الناس أو فلانون.
9. لَوْكُ مقولات الضعف والعجز والغياب، وتشريعها بنسبتها إلى ميت لم يقلها للناس في حياته، ولو كان الأستاذ! لا يعدو أن يكون تكرارا لكلمات يرددها بعض من لم يجدوا ما يقولونه في شخص الرئيس، ولا في أدائه.
فمفهوم القوة ملتبس في أذهان كثير من العامة، وليس من الطبيعي أن يلتبس في حديث الدكتور أحمد. إن القوة لا تعني الغطرسة، ولا تعني الجبروت. قد تغري النماذج التي ترد إلى الأذهان لرجال الدول الجبابرة، وتزاحم صور القوة الحقيقية التي تمثلها نماذج أخرى لم ترتكب مجازر، ولا فتحت معتقلات وسجونا، وخلدها التاريخ بالعدل وحب الناس، وكانت الرحمة والرفق أقرب إلى معالجتها للقضايا من النطع والسيف والجلاد.
10. كان الدكتور موفقا في حديثه عن الإدارة، وواقعها، وهو حديث سبقه إليه الوزير الأول السيد محمد ولد بلال، أمام أطر وزارة العدل قبل أشهر، ولعله إذا قارن كلام الوزير بكلامه استذكر أنه نسي بعض المعايب في إدارتنا المهترئة. وهي كالتعليم والصحة، وبعض القطاعات لا يمكن إصلاحها في عقود. ومن الشعبوية المقيتة تحميل نظام الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني وزرها.
11. جنح الدكتور إلى منطق شعبوي غير مسنود بعقل، ولا متدثر بفلسفة؛ حين تحدث زيادة أعداد “طلابة الصدقة”، وعن عشوائية التعيينات، وأشياء أخرى كثيرة يٌنسِي آخرها أولها.
إن إطلاق الأحكام الجزاف، بالضعف والكارثية، واستجلاب المقولات المحنطة لتوصيف الواقع المتغير، والمقايسات التي تفتقد لأبسط مقومات القياس السليم، لا تعطي خلافة الأستاذ، ولا تقدم للبلد أي شيء. ومن مسؤولية المثقف أن يحجز السياسة عن الانجراف نحو الشعبوية، ولهذا، ربما آثر الأستاذ محمد يحظيه رحمه الله الكتابة، وتجنب تساجيل الكلام في وسائط غير مأمونة، ولهذا ربما كتب كثيرا بلغة لا يفهمها أغلب المتعلمين في البلد، وحين أرغم على الترجمة بفعل التحول لجأ إلى العبارة المواربة.
بقي أن أقول إنه لو خلص ابن الأكارم كلامه من البالغات، ومن الإساءة الشخصية لرمز الدولة الأول، ونحى الشعبوية الميقتة، لكانت أنفع، ولكان كثيرون تبنوها، ودافعوا عنها. ولو كان سبقها باستقالة من “هذا الوضع الكارثي” لوقعت موقعا أفضل.